تأتي قضية الالتزام لتشكل حالة إنسانيّة وأخلاقيّة عامّة شاملة لدى البشر، ربّما من يلتزم بباطل مُجانبًا الحق والصواب معا لإصرار العنيد على موقفه ، والأقوى والأجمل هو الانحيازللحق وأهله ، وإن أغضب العالم والكون أجمع.
(ابتسام شاكوش) قاصّة وروائيّة سوريّة ، لها ما يقرب من عشرمجموعات قصصيّة وتسع روايات مطبوعة ، وهي ابنة ريف اللاذقية من قرية (الجنكيل) تابعة لمدينة (الحفّة)،ولا تبعدعنها سوى خمسة كيلومترات.
الأدباء عامة كل منهم ملتزم بقضية ما ، والانحيازالأعظم والأقوى منهم عندما يكون لقضايا الإنسان والمنافحة عنه ضدّ الظلم والدكتاتورية ، والعمل على إعلاء قيم العدالة والعيش الكريم ، واحترام الحريّات الشخصيّة والمساواة أمام القانون.
وبهذا المعنى يكون الكاتب حالة متقدّمة ارتبط فكره وإبداعه بقضايا وطنه ومواطنيه ، وكثيرًا مايضحي الكاتب بوظيفته وبحياته من أجل قضيّة آمن بها.
(ابتسام شاكوش) وإيمانًا منها بالتزام الخط الإصلاحي في نهج فكريّ مُنظّم لكشف الفساد الأخلاقيّ والإعلاميّ والإداريّ للنظام الدكتاتوريّ الجاثم على صدرالشعب ، فجاءت كتاباتها مُتروّية في تسليط الضوء على العلّة والداء ، وفضح أساليب الحياة المقهورة ، والأطُر الحاكمة وكشف الخيوط المرتبطة بها كمنظومة فساد متكاملة من الألف إلى الياء..
أ – الالتزام وقضايا الفساد:
أختصرالقول بنقل لبعض فقرات من صفحات الرواية تحكي قصّة الفساد، وكما أعتقد أنها تشرح نفسها بنفسها، وليست بحاجة لتعليق منّي:
*(أبو سعيد شرطي حراجي، مهمته حماية الغابات من الاستهلاك، ومنع أي شخص من قطع الأخشاب لتفحيمه، أو جمع الأعشاب الطبية لبيعها من أجل الإنفاق على بيوت يئس أصحابها من لتفحيمه، أو جمع الأعشاب الطبية لبيعها من أجل الإنفاق على بيوت يئس أصحابها من إيجاد وظيفة في دوائرالدولة، أو أقامة مشروع إنتاجي لا يقاسمهم أرباحه رجال الشرطة والمخابرات وشعبة الحزب ومكتب الفلّاحين) ص35
*على لسان (مصعب) الملقّب ابن المجرم: (فتأتي معلومة جديدة من أحد الرفاق فتٌطوّح بي في الفراغ، تقودني لاكتشاف مساحة جديدة من علاقات إدارة الشّعبة، كان خافية عليّ، المستخدمون هنا، المسؤولون عن النظافة هم أقارب أمين الشّعبة؛ جاء بهم من جقولهم وقُراهم الجبليّة البعيدة؛ ليحيطوا به، وليقبصوا رواتب شهرية، يدفعون له نسبة منها طالما بقي في منصبه) ص37
*(أحاديث رجال القرية كلها تدور في فلك السياسة، وعن المشاريع الخدمية التي تقدّمها الحكومة، عن أبنية المدارس الجديدة التي يحضر المحافظ وأمين فرع الحزب مع حاشيتهما وحُرّاسهما ومن شاء من أصدقائهما أن يتطفل على الوليمة لوضع حجر الأساس لها، يقيمون حفلًا لتدشينها، يرقصون ويدبكون ويُلقون الخطابات الجوفاء، ثم ينصرفون إلى مطعم تمّ حجزه مُسبقًا، وسبقهم إليه رجال الشرطة والمخابرات لحراستهم) ص37
*(يتحدّث رجال قريتنا عن الأموال التي تُهدر في تلك الاحتفالات، والمصالح التي تتعطّل، يتحدّثون عن الأبنية التي يُسرق حديد تسليحها، ويُسرق إسمنتها، فتدلف سقوفها منذ شتائها الأوّل، وتنهار بعض الجدران في الشتاء التالي، يبدأ مشروع ترميمها، واحتفالات لتدشين الترميم بسلسلة من الحفلات والدّبكات، لا بداية لها ولا نهاية) ص37
*(أنصت لحديثه، وأتذكّر أنّ كل هذه المنجزات التي يذكرها منخورة بالفساد حتى أعمق أعماقها، مستندًا إلى ما أراه وما أسمع من أحاديث في باص قريتنا وفي مجالسها) ص39
*(حديث الباص من الحفّة وإليها كان مقتصرًا هذه الأيّام على المدير الجديد للزراعة، التي تُنظّم بيع الموادّ الزراعيّة، وعن الشراكة بين هذا المدير الجديد ومدير المصرف الزراعيّ، الذي أدّى إلى غلاء كلّ ما تحت أيديهمامن مُبيدات حشريّة، وزيوت شتويّة وأسمدة، لا يمكن لحقول التّفاح الاستغناء عنها) ص44
*(قال لنا مُدرّب التربية العسكريّة في مدرستي الجديدة: إن المعسكرالذي يلي الصفّ العاشر إجباريّ، ومن يغيب عنه يرسب في صفّه، أمّا المعسكرات الأخرى من شبيبة وصاعقة، وقفز مظليّ فهي إختيارية، لكن فيها مكسب حقيقيّ، إذ تُعطيكم خمسين درجة، تضاف إلى مجموعكم في الثانويّة العامّة؛ لتدخلوا أيّ فرع من فروع الجامعة ترغبون به) ص 47
*(جدّي ما فتئ يكرّر على مسمعي: بأنناندرس التّاريخ مُزوّرًا) ص49
ب – الالتزام وقضايا حقوق الإنسان:
في الأنظمة الدكتاتوريّة لاقيمة لدستور شُرِع لضمان القيمة الاعتبارية للإنسان وكرامته وحريّته الشخصيّة وحاجيّاته، فيذوب هذا الكيان في دوّامة زحمة الأجهزة الأمنيّة التي تحكم البلاد بقبضتها، تحت ذرائع ومسميّات؛ لفرض سيطرتها بالقوّة والتهديد والوعيد، وزرع الخوف والرعب في القلوب والنفوس؛ فتُكمّم الأفواه، وتصمت الألسنة عن قول كلمة الحقّ، لما لها من مضاعفات كبيرة تهدّد استقرار حياتهم.
وقضيّة معتقلي الرأي قديمة متجدّدة في نظام شموليّ كالنظام السوريّ، فمنذ مجيئه إلى السلطة أعقاب أحداث 1963 وفيما أطلق عليه (ثورة 8 آذار)، لم تتوقّف الاعتقالات لناشطي الفعاليّات الثقافيّة والحزبيّة المناوئة للانفراد بالسلطة، وتكلّل نظام الإقصاء أوجه بعد 1970 إثر إنقلاب أبيض سُمّي (الحركة التصحيحيّة)، الذي ابتدأ عداءهللشعب فيما أطلق عليه أحداث الدستور1971، ولم يتوقّف السير في انفراده بالسلطة عندما انطلقت حملته المسعورة في الثمانينيات من القرن الماضي وعلى مدار ثلاث سنوات من أواسط سنة 1979- 1982م، وبلغت ذروة الحدث في أحداث مدينة حماة، بعد أن حدث ما حدث في حلب وجسر الشغور وسجن تدمر.
وفي رواية (ابن المجرم) أبدعت الروائيّة (ابتسام شاكوش) في تسليط الضوء على هذه إفرازات هذه القضايا والأحداث التي صارت جزءًا لا يتجزّأ من حركة التّاريخ الدؤوبة، فقضيّة المعتقلين الذين اعتبرهم النظام أعداء له، فأعلن الحرب عليهم جميعًا دون استثناء، ففتح أبواب المعتقلات، وأدخل فيها الجميع تحت ظروف سيئة، بعيدة عن أبسط ظروف العيش الإنسانيّ.
(ابن المجرم) لقب شاب اسمه (مصعب) ابن لأحد الضباط الذي اعتقل،ولم تفصح السلطات عن مصيره، فاعتقد أهله جازمين بأن موته محقق لا محالة ضمن هجمة همجيّة من قوّات وميلشيات سرايا الدفاع على سجناء سجن تدمر.
الرواية تعتبر سجلًّا حافلًا توثيق هذه الأحداث في عمل روائيّ شيّق في سرد الأحداث وتسلسلهالتكون مادة مقروءة عندما رفعتها من المحكي الشفاهي، وستبقى الرواية علامة مميّزةفي تاريخ سورية الحديث، أجادت الروائيّة ابتسام في بنائها دراميًّا بشكل لافت يحاكي العقل على ضوء الواقع.
هذه الأحداث التي مهدّت للثورة السوريّة، ووعلى رأي القائل: “إنّ الرواية هي انتقام الشعوب من حُكّامها“، عندما نقلت حكايات البسطاء وأحلامهم وآمالهم إلى عالم الورق والكتب.
عمّان – الأردن
15 \ 6\ 2018