كلّ ما نعرفه عن شخصنا ما هو إلّا القشرة الخارجيّة الّتي يجتمع فيها الظّاهر المرئي أو الظّاهر الواعي. ولا تتعدّى هذه المعرفة كونها معرفة بسيطة جدّاً أمام حجم العالم الّذي يحيا وينمو في داخلنا. وإذ نستخدم لفظ “الأنا”، فلا يعني بالضّرورة أنّنا على يقين تامّ بها، وإنّما هذا اللّفظ يتحدّد في ظاهرنا الحسّيّ لا الباطنيّ العميق أو الحميم. فقول “أنا موجود” يعكس إدراكنا للوجود الحسّيّ الحياتيّ اليوميّ، أي حركتنا اليوميّة، ونشاطنا الجسديّ والفكريّ والرّوحيّ. بيد أنّ قول “أنا موجود” تفترض وعياً خاصّاً وعميقاً لمعنى الوجود، ووعياً أعمق لكينونتنا الإنسانيّة (الأنا) الّتي تنمو وتتدرّج من أسفل إلى علو ضمن الذّات الإنسانيّة، إلى أن تتخطّى الّذات وتصبح أنا كونيّة. “أنا موجود”، يشمل الأنا الكلّيّة أي الدّائرة الإنسانيّة الجامعة للغرائز والرّغبات والنّزعات والشّوائب في أسفلها، والجمال والفنّ والانجذاب إلى الأنوار في علوّها.
لعلّ الشّاعر فراس حج محمد في ديوان “ما يشبه الرّثاء” (طباق، فلسطين، 2019)، تحقّق من (الأنا) أو لامس خيوطها السّفليّة والعلويّة. وأعاد تفكيكها والتّأمّل بها، وكتابة سيرتها الوجوديّة، إن جاز التّعبير. ولقد سبق وذكرت في قراءة نقديّة سابقة للديوان، أنّ الشّاعر استخدم لفظ “أنا” ستاً وأربعين مرّة. فأتى لفظ (الأنا) كمفتاح للدّيوان ومحوره وسببه وغايته. فالشّاعر أغلق ذاته على ذاته بل توحّد معها، ولعلّه بلغ ما بلغه من اتّحاد الذّوات الإنسانيّة عندما أدرك الأنا أناه في الذّات الشّعريّة. بمعنى أدقّ، تباعد الشّاعر عن أناه ليبلغ عمقها الحقيقيّ. فكأنّه خرج من (الأنا) ليعود ويبلغها أقرب ما يمكن إلى تمام معناها.
ولئن كانت (الأنا)، أنا الشّاعر، مفتاح الدّيوان ومحوره وسببه وغايته، بدا الدّيوان حركة تأمّليّة تعيد قراءة (الأنا) على ضوء (الأنا) الظّاهرة للآخر من جهة، ومن جهة أخرى على ضوء (الأنا) الغائبة الغريبة عن العالم. ولقد برز هذا المعنى جليّاً في الظّهور الأوّل لأنا الشّاعر في قصيدة (أنا) (ص 29):
أنا
أنتم، وأنتنَّ، وأنتِ، وأنتما ….
وهما، وهنَّ، وهم، وأفرادهما….
كلّها ضمائر شاهدهْ:
متكلمهْ،
متخاطبهْ،
إلا “أنا”
و”أنا” ضمير غائبٌ.
في هذه القصيدة يظهر مفهوم الأنا المنفصلة عن الآخر (أنتم، وأنتنَّ، وأنتِ، وأنتما …./ وهما، وهنَّ، وهم، وأفرادهما). وهدف الانفصال تأمّليّ يعبّر عن رؤية الشّاعر الخاصّة في أناه وفي أنا الآخر. (أنا ضمير غائب). فالمتكلّم هنا، أنا الشّاعر، الأنا الإنسانيّة العميقة. وهي غائبة بحكم تخطّي الأنا المتكلّمة. فجميع الضّمائر (أنتم، وأنتنَّ، وأنتِ، وأنتما، وهما، وهنَّ، وهم) الّتي ترمز إلى الآخر، أو إلى حركة الوجود الظّاهريّ منفصلة عن أنا الشّاعر (إلّا أنا). وهي ضمير غائب وحاضر في آن. غائب عن الأنا المتكلّمة لتتجلّى الأنا العميقة ، وحاضر في صلب الأنا الوجوديّة لتبرز هشاشة الأنا الظّاهريّة من جهة، وربّما وهم الأنا. ومن جهة أخرى لتكشف علوّ الأنا الغريبة عن هذا العالم بعد اختباره. وفي استخدام لفظ (كلّها) انفصال حتميّ عن ضجيج العالم وولوج في صمت العالم الدّاخليّ (الأنا). غاب الإنسان فكتب الشّاعر واغترب ثمّ عاد ليقول. والأنا المراد الإشارة إليها في الدّيوان هي الأنا الشّاملة جسديّاً ونفسيّاً وروحيّاً. لقد عبّر الشّاعر عن أناه بأدقّ تفاصيلها أمام أناه أوّلاً كفعل اغتسال داخليّ يؤسّس لانفتاح أعمق على الحالة الشّعريّة. فالشّاعر ينقل للقارئ هذه الحالة بعد فعل اغتسال الأنا ليكون الشّعر في أبلغ مقام. وإذ يستخدم الشّاعر لفظ (الغريب) سبع مرّات فليؤكّد على تمام غربته أو غربة الأنا تحديداً فتتبيّن رؤية الشّاعر المختلفة للعالم وللاختبار الوجوديّ.
في الظّهور الثّاني للفظ (أنا) في قصيدة “خرخشتي الموحشة” (ص34)، يبدو للقارئ إدراك الشّاعر للأنا الظّاهرة:
الشّعر لا يشفع لي
لأكون حبيبا علنيّا
فهْيَ تريدني افتراضيّا وأزرقْ
كيف سأظهر معها
وأنا أعاني ما أعاني
من عرج ونحول وشيبْ
وعروق وجهي الصّابئةْ
وصوتي اليشغب خرخشة موحشةْ
لفظ (أنا) في هذه القصيدة إدراك للأنا الظّاهريّة المترادفة والإدراك الضّعيف للأنا الشّخص. وهي متلازمة و(أنا) في قصيدة خلايا الحزن (ص41) الّتي ما تزال عند حافّة الأنا الفعليّة العميقة:
فأنا منذ تفتّحت
وداعبت صبايا
لم أرتّل غير أحزاني
لا ريب في أنّه من الضّروريّ الانطلاق من الأنا الظّاهريّة لبلوغ الأنا العميقة. وتكمن أهمّيّة هذا الانطلاق في كون الشّاعر متصالح مع ذاته ومع واقعه على الرغم من كلّ الاختبارات الحزينة والمؤلمة الّتي مرّ بها. وفي هذا التّصالح قوّة تدفع الشّاعر لسبر أغوار نفسه العميقة وملاحظة تفاصيلها بوضوح تام ليتمكّن من التّخلّص من شوائبها وتخطي ذاته لبلوغ الأنا الشّخص. فلا بدّ من تحرّر من قيود الأنا الظّاهريّة لبلوغ حرّيّة الأنا العميقة، لتنكشف ظلال هذا التّحرّر في قصيدة “سراب” (ص 43) حيث يتطلّع الشّاعر إلى جرحه كمعلّم ومرشد يكشف له أناه. (أنا إن نسيت الجرح علَّم في خواطري/ الجريحة).
الوعي بحقيقة الأنا صعب وأشدّ إيلاماً من جهلها. فالوعي بها لا يعني بالضّرورة امتلاك فهمها بشكل كلّي، بل هو دخول في دائرة أخرى، تبدّل الرّؤية، والفكر، وكيفيّة الفهم. ولعلّها أشدّ إيلاماً لأنّ المعرفة والوعي في عالم يجنح إلى الغوغائيّة والتّفاهة يؤلمان بعنف من بلغ معرفة أناه. وإن دلّ عنوان القصيدة (سراب) على شيء فهو يدلّ على رؤية الشّاعر أو إدراكه لخدعة العالم، وخدعة مفهوم الأنا الظّاهريّة.
يبدو للقارئ في أبيات هذه القصيدة كأنّ الشّاعر يخطو كطفل نحو اكتشاف أناه. (أنا ما أكنّ من الهوى/ خافٍ عليّ مساره). فالشّاعر يتلمّس أو يكتشف ملامح أناه الّتي يشعر بحقيقتها ضمناً (أنا ما أكنّ من الهوى). وكأنّي به يخطو نظريّاً نحوها، أو يبدو اكتشافه للأنا اكتشافاً بالقوّة حتّى يبلغه بالفعل:
هذا أنا
من قبضة اللاشيء أحيا
هو ذا أنا
ليل بلا قمرٍ، بلا رؤيا، بلا حلْمٍ، بلا فلك يعاوده المدارْ
لا حلم لي حتى أكون كما أنا
هو ذا أنا أعلنت موت الشارة الأولى
لتبدأ محنة أخرى بشكل الدائرة
لقد تجرّد الشّاعر من هيئة الأنا الظّاهريّة ليتمكّن من رؤية الأنا بوضوح ونقاء تامّين. وبفعل هذا التّجرّد يتحوّل إلى ضدٍّ اجتمعت فيه الأضداد في قصيدة “ضدّ عليك” (ص 59). فهو ضدّ الزيف والخداع والضّلال والانحراف ووهم الاستقامة، إلّا أنّه لا يدخل في دور الواعظ لأنّه عمليّاً يعيد قراءة أناه. وإن بدا يتطلّع إلى الآخر من خلال القصيدة، إلّا أنّه يتطلّع نحو أناه ولعلّه يدخل في حوار معها:
كالمجد كن
حرفين كن، لغتين كن…
فهو يعي تماماً بشريّته المتناقضة والضّعيفة وبذات المستوى من الإدراك ارتقى عن خدعة العالم. والانتقال من (أنا) إلى (كن) انتقال مبدئيّ لإدراك الأنا. وأمّا الانتقال الفعليّ فيتجلّى مع الفعل (صرت) في قصيدة “يا غوايات المقلّ” (ص 99) (صرت كلّي يا أنا). وهنا اتّحاد ضمنيّ بين الأنا الظّاهريّة والأنا العميقة لتتجلّى الأنا/ الشّخص. وفي قصيدة “السّندباد” (ص 110) (فكان “صوفيا” توحّد بالأنا). وهنا يظهر المفهوم الآخر أو الحقيقي للتصوّف من ناحية الارتقاء بالذّات إلى الدّائرة الأعلى للإنسانيّة. وفي الاتّحاد بهذا المفهوم إدراك عميق وحميم للأنا خرج به عن مفهوم الزّمن في قصيدة “الوقت مشبع بالثّرثرة” (ص 138) وفي قصيدة “حبّة من شعر” (ص 147) “أنا فقير مريض ويقال: “شاعر) أشار بالفقر والمرض إلى الدّائرة المؤلمة الّتي دخلها، دائرة الوعي الحقيقيّ والمعرفة الحقيقيّة. إلّا أنّ هذه المعرفة تخصّ الشّاعر وحده، يدور في فلكها ويحتمل شقاءها.
“وجع السّؤال… تعب الحقيقة”، كذا يقول الشّاعر، وكذا يعبّر عن همّ المعرفة المرتبط بوهم المعرفة. فكلّما تقدّم نحوها أدرك وهمها، لذلك فهو في تعب مستمرّ، لأنّ في تلمّس المعرفة مزيد من البحث عنها، وفي البحث عنها مزيد من التّعب. ويظنّ العارف أنّه يعرف وهو لم يعرف إلّا القليل القليل.
أقلت أنا؟
لعلّني أنا هو
غارق في الوهم حتّى العظم
بل وهمٌ وراءه وهْم وهَمّ.