اضاءة لـ قصيدة / رحيق المسافات / للفنانة التشكيلية والناقدة والشاعرة / خيرة مباركي / تونس
سيبقى الشعر هو اللغة الشاملة والمعبّرة عن الذات الانسانية وستبقى الكلمة هي الكائن الحيّ الذي من خلاله يستطيع الشاعر ان يرسم الواقع عن طريق خياله الخصب وابتكار العديد من الصور الشعرية الزاهيّة واجادة تشكيلها واعادة صياغتها وجعلها ناصعة متوهّجة خالية من الترهّل , وان طغيان المخيلة الخصبة تمنح الشاعر حرية تحطيم اللغة واستغلال طاقاتها الى أبعد حدّ ممكن وبثّ الروح والمشاعر الجيّاشة في القصيدة عن طريق تغريب اللغة وانثيالاتها وتحطيم الوحدات المنطقية والعقلية التي تجعل القصيدة مقيّدة وتتحرك في نظام نمطي رتيب وجعل اللغة ساحرة عذبة .
مما لاشكّ فيه بان حالة التوافق الذهني والحركي ( حركة الاصابع ) عند الشاعر مهمة جدا تتيح له حرية الابتكار والخلق نتيجة لموهبته وحرفيته العالية في صناعة الحدث الدرامي داخل النصّ الشعري , فالشاعر كالموسيقى الحاذق يحتاج الى انامل تجيد العزف بحريّة وعذوبة ويرسم بكلماته صوره المدهشة والمستفزّة عند المتلقي . الشاعر يجب ان يحسب كل شيء داخل عمله الشعري بعناية فائقة , ينظم الاحداث والصور والموسيقى والحوارات والزمان والامكنة داخل فضاء عمله الشعري يبدأ من المفردة واخيارها الصحيح ومكانها المناسب داخل المقطع الشعري ثم دراسة المقطع الشعري ورسمه بدقّة وتكثيفه الى أبعد حدّ ممكن وضغطه كي يتناسب مع المقاطع الاخرى . عليه ان يحسب بدّقة اللقطات المتوهّجة داخل النصّ وكذلك الاصوات وتناغمها مع بعض ويحذف الاصوات النشاز لئلا يرتبك العمل الشعري ويتشتت ويتلاشى . فالسينوغرافيا ( سينو = صورة / غرافيا = رسم ) تعنى رسم الصورة , الشاعر المبدع يستطيع رسم العديد من الصور الشعرية الغريبة والمحطمة للواقع والعزف بجميع الادوات المتوفرة ( المفردات المختارة بدقّة ) وابهارنا , وان يجعلنا نتساءل كثيرا ونتأمل ونؤوّل كل حسب ذائقته وخزينه المعرفي كثيرا ايضا ويمتعنا بمتعة ايما متعة , متعة ترافقنا طويلا لا تنتهي بمجرد الانتهاء من قراءة القصيدة .
يبدو اننا امام خلية نحل ( القصيدة / رحيق المسافات ) عاملات كثيرات لاتكلّ ولا تملّ ( الرمز / الاستعارة / التشبيه / المجاز / والكتابة ) تعمل بعدة اشكال وتقوم بوظيفتها لا لشيء الاّ انتاج وجمع الرحيق ( ايصال المعنى الى المتلقي ) , وخلف هذه العاملات (الرمز / الاستعارة / التشبيه / المجاز / والكتابة ) توجد ( ملكة / الشاعرة ) تراقب الاحداث بعين ثاقبة تجيد فن الهندسة والبناء وتملأ ( المسافات / الفقرات ) بالدهشة وتبعث فيها الاحساس بالجمال واللذة او الاسى وتبعث الفتنة . عند قراءة هذه القصيدة تهبّ علينا نشوة نتشممها من خلال لغتها المغايرة وكلما نتقدّم في القراءة نراها تتوهّج اكثر تذيب الثلوج وتبدد سحب الرماد من الذاكرة , لغة تستفزّ الخيال توقظ في الروح فتنتة تنتصر على كدر الواقع المعاش وتبدد من حولنا هذا الضجيج وتحلّق عاليا حرّة في سماوات اخرى تنبعث مما وراء الحلم .
· رحيق المسافات / هذا العنوان الهادىء والمثير في نفس الوقت حيث يفتح افاق التأويل والتأمل العميق عمّا أرادت من خلاله الشاعرة ان تقول وهي تستفتح القصيدة بهذه الاطلالة الجميلة . فكما هو معلوم في اللغة بانّ ( الرحيق سائل مائي سكري تفرزه الغدد الرحيقية التي تتواجد إما على الزهرة أو على الأوراق أو عند التقاء ساق الورقة مع الغصن وهو الغذاء الرئيس للنحل حيث يمتصه من الأزهار ويحمله إلى خلاياه في حويصلة العسل ), وانّ ( المسافة تعنى البُعدْ وايضا المساحة والمقدار وقد تستخدم للزمان , وقد تعني المسافة التي يتركها النحل بين الأقراص الشمعية وأجزاء الخلية الاخرى وذلك للسماح له بالمرور خلالها و قد تستخدم المسافة ايضا للفراغات ما بين مقاطع القصيدة ). هنا لابدّ من الوقوف على قصدية العنوان لانه العتبة الاولى والمدخل المهم للقصيدة , فهل ارادت الشاعرة ان تقول : بانّ هناك مسافات زمنية او مكانية ممتلئة بهذا الرحيق ..؟! . وهل ارادت ان تثيرنا عن طريق هذه العنوان باننا امام خلية نحل صنعت بعناية فائقة وكأن وراءها مهندس محترف ( القصيدة ) ..؟ . ام اشارت الينا بعنوانها هذا الى انّ كل فقرة من فقرات قصيدتها هذه يتكاثر الرحيق بينها وانها ( الشاعرة ) قد كتبتها برحيق الابداع وجمال اللغة ..؟ . كل الاحتمالات جائزة لان العنوان يشير اليها جميعا ويلمّح عن بعيد او قريب الى ذلك . بالتاكيد أرادت الشاعرة ان تقول لنا بانّها رسمت هذه القصيدة رسما دقيقا كخلية النحل وبثّت فيها الرحيق فكان العنوان عبارة عن صورة حسيّة / شمّية / ظرفية / ذوقية , من خلاله اصبحنا نشمّ عطرا ونتحسس جمالا ونعيش في زمن معين ومكان اخر ونحن نتذوق هذا الرحيق المتضوع من بين فقرات القصيدة ..
يا لعيونك حين تتنّفسُني رحيقَ مسافاتٍ
هكذا تبدأ القصيدة / يا / بأداة النداء للذات الاخرى البعيدة او القريبة / هل هي عملية مناداة ام استغاثة وتعجب / لعيونك حين تتنفسني / صورة مكثّفة مدهشة جدا أنسنت العيون ووهبتها صفة التنفس / وهذا انزياح رائع في اللغة / رحيق مسافات : هنا اعطت لنفسها هذا الرحيق وهذه المسافات التي اشرنا اليها في العنوان .
وأنتَ تُموْسقُني ابتسامَةَ فَجْرٍ قُرْمزِيٍّ ..
وأنت / ايها الهنااااااااااااااك / بدأت القصيدة تبوح بمكنوناتها وتخاطب / الـ أنت / في لغة مبهرة / تُموْسقُني ابتسامَةَ فَجْرٍ قُرْمزِيٍّ .. / ويبدأ العزف وندخل بهدوء الى اجواء القصيدة بهذه الموسيقى العذبة من خلال اشراقة فجر قرمزيّ بديع .
لابدّ من الاشارة هنا بانّ كل مقطع رُسم بعناية فائقة جدا عن طريق لغة مرمّزة رقراقة كالينبوع حُبلى بالكثير من الصور الشعرية الصادمة والمدهشة ان القصيدة تحتضن داخلها الكثير من الالحان والانغام والاصوات / فأعزفُ حنيني ببراعة القحط حين لا تدركني مزنتُك العابرة بعساكر الشوق ../ سيمْفُونيّةً عاصفةً لربيعٍ آيلٍ لسَكْرة ../ ترتّلني لحْنا كلثوميا بصلاَة غائِب ..
نجدّ في هذه القصيدة عنصر حيوي الا وهو الصراح والحوار والحركة لكننا نتلمسه من بعيد حيث تكون الشاعرة تصنعه بحرفية عالية وتجيد تحريكه مستبطنا / فأَبْحَثُ عنّي ..وأتيه في أحْداق النّورِ ../ حين تغْزُوني ابتسامةَ صبحٍ ..أنتصبُ علامةَ استفهامٍ في استخارتي الأخيرة ../ وأنتَ تعْرُج لصَمْتي الأبدي .. تُحْيِيهِ .. / هنا نجد حوارا بين شخصيتين عن طريق لغة مبهرة ومن خلال صور شعرية صيغت بعناية فائقة .
مما لاشكّ فيه باننا امام تدفق لغوي جميل جدا وتشكيلات صورية رسمت من قبل فنان يجيد الرسم بالكلمات وموسيقى طافحة بالجمال والفرح , كلّ هذا استطاعت الشاعرة ان تظبطه وتحسبه بدّقة ختمته بـ / أغدا ألقااااااااااك .. / يا لشَوْقي واحْتراقِي في انتِظارِ الموْعِدِ .. / الاصرار والتأكيد على الحضور القوي والنتظر .
هذه كانت عبارة عن اضاءة لقصيدة الفنانة التشكيلية والناقدة والشاعرة / خيرة مباركي , وهي ليست قراءة نقدية فانا لست بناقد وانما سحر القصيدة أقلقني كثيرا واستوقفني طويلا فكان من الواجب ان اقول بحق الجمال والابداع شيئا فكتبت ما كتبت ..
القصيدة
رحيق المسافات
يا لعيونك حين تتنّفسُني رحيقَ مسافاتٍ
وأنتَ تُموْسقُني ابتسامَةَ فَجْرٍ قُرْمزِيٍّ ..
فأَبْحَثُ عنّي ..وأتيه في أحْداق النّورِ ،
فرجًا لأسارير طريقِكَ الطويلةِ ..
حين تغْزُوني ابتسامةَ صبحٍ ..أنتصبُ علامةَ استفهامٍ في استخارتي الأخيرة ..
يا أيُّها الإنْسيُّ ، من صبْوَتيْكَ السّادِرتيْن في فجري
تُشْرق فراديسي
وتخطُر في نشوة الضّياء ..
فأعزفُ حنيني ببراعة القحط حين لا تدركني مزنتُك العابرة بعساكر الشوق
ويخضّبُني بمِحْنَة الرُّكُوعِ في
تواضُع الحلم ..
وأنتَ تعْرُج لصَمْتي الأبدي .. تُحْيِيهِ
سيمْفُونيّةً عاصفةً لربيعٍ آيلٍ لسَكْرة
الفُصُولِ فَتَضِجُّ عُطُورُ الشّرْقِ وتغارُ منْ شَذاك
المُتضوّع بأنفاس صباحِكَ
عزْفَ نايٍ بعيدٍ ، يُفيْرُزُنِي
بقداسة المَوانِع ..
أجفانُك المُهلِّلة من بُسْتانك الأخْضرِ
المُخَطّط بانهِمارات الصَّبّ ، تُرْديني طريحَة
الذّكريات المأهولة بسنابلك ..
وحبابُ الهَوَى يُنَرجِسُني سُعْرات وسُعْرات ..
ياااااااا أنتَ .. البعِيد خلْفَ الخرائِط
ارتسمتَ في مرآتي
ملحمةَ شوقٍ عنيدةٍ تنُوخُ في بيادري أشرعةَ هوَى تسيلُ فيه الدُّنَى وتسجُدُ ..
ترتّلني لحْنا كلثوميا بصلاَة غائِب :
“أغدا ألقااااااااااك ..”
“يا لشَوْقي واحْتراقِي في انتِظارِ الموْعِدِ ”
شعر خيرة مباركي .ديوان ” مخاض الأشرعة “