سليم النجار
الأسئلة تنضج بعد غياب الذكرى، وللذكرى ردهة مشبوهة يتم الاستراحة فيها من عناء القبض على أرواح المارين، لي هذا الخراب، وهذا البهاء، ولي أرجوحة غراب الشك في بهاء الخرائب
صدرت جريدة الطبل الفلسطينية الساخرة في حيفا عام ١٩٢١، وصدر عنها ١١٣ عدد وتوقفت العام ١٩٩٢، وقد جاء تبويبها على الشكل الآتي:
اللغة: العربية
المنطقة: الشرق الأوسط
الدولة: فلسطين الانتدابية
المدينة: دمشق/ القدس/ حيفا
ترأس تقريرها إبراهيم محمد كريم، ومدير الإدارة يعقوب الدجاني.
قرأتُ ملامح الغواية في خلوات التجارب، وفي مهب المكائد، وضعتُ أغنية لوردة ومضيتُ أكتب عن “الطبل”، لعلّي أجد ما يداوي شتاتي الفلسطيني، وأبحث عن إبداع أجدادي الذين رحلوا وتركونا نداعب فصول الحروب.
لا نملك من عدة الخطايا إلّا خيبات طعناتها واندهاش مرتبك يحاول ترتيب ما تبقّى من دوائر الشتات وظنون تعاستنا، لا نملك من الوقت إلّا دقائق مبتورة تحاول إخفاء عقارب الشتات من حنايا دهاليز سطوة النسيان.
من ساعة المنفى في وطني، من ذاكرتي الممتلئة بتعاويذ الذئاب، ومن حماستي المفرطة في ارتكاب الحماقات الداكنة، أبدأ الحديث عن جريدة الطبل الفلسطينية، التي سخرت من أنثى الخوف ومن ضجيج مفتعل في الدفاع عن وجود فلسطيني، سيصبح بعد زمن قصير لاجئًا.
نحن أمام جريدة جديدة في رسالتها، فماذا سنقول عنها؟ يجب أن نملأها شيئًا، وإذا قمنا بذلك، فهذا لا يعني أننا نتصرّف كمن يخطّ كلماتًا أو رسومًا على صفحة بيضاء، حتّى الشاعر أو الرسّام عندما يخطّ على صفحة بيضاء، فإنّ اللغة والألوان والأشكال الكامنة في نفسه من تجارب الآخربن وتجاربه تبقى سابقة على ما يقول، وأنا سأقول عن الطبل كما أعتقد وأرى، وقبل ذلك علي التعريف بها، إنّها جريدة يوميّة عربيّة اجتماعيّة نقديّة فكاهيّة حرّة، صدرت مؤقتًا مرة في الأسبوع بصور وأشكال متنوعة، مرة بأربع صفحات، ومرة بصفحتين، وأحيانًا بحجم مجلة صغيرة، كما صدرت بأوقات مختلفة تبعًا لأهواء ناشريها، وقد كانت تدعو دومًا لخدمة المصلحة العامة، وكان مبدؤها “الحق يعلو ولا يُعلى عليه”، وخطّت ذلك بالبحث في كل أمر يعود نفعه على الأمة والوطن، ولم تنطق إلّا بلسان حال الشعب العربي، وبالرغم من كل ما جاء في تعريفها ورغم محاولاتي الحثيثة في البحث، إلّا أنّني عجزت عن معرفة لماذا سُميت بـ”الطبل”، لذا قررت الاستمرار في الكتابة عن الطبل، فتناولت نموذجين صدرا عنها، لعل القارئ يجد ما يفيده، نتناول في العدد الأول الذي بين أيدينا والذي حمل رقم “١٢٠” الصادر بتاريخ ١٤ رمضان سنة ١٩٢١
نفتح الجريدة وعلى صفحتها الأولى مقالًا بعنوان “رأينا كمالهم فأين كمالنا؟، وبدون توقيع لكاتب المقال، يعني ذلك أنّ هذا المقال يعبّر عن رأي الجريدة وهيئة تحريرها، وما جاء في المقال عمل مقاربة بين كمال أتاتورك الذي اعتبرته الجريدة محررًا لتركيا، متسائلة عن سبب غياب شخصية فلسطينية بحجم أتاتورك وتواصل هجومها على هذا الغياب الفلسطيني، مستشهدة بمقاربة جاءت على الشكل الآتي:
“فإذا كانت الأمة التركية استرجعت بازخ مجدها الذي كاد أن يقضى عليه، والأمة المصرية أوشكت أن تنال شيئًا من حقها، فهما أمتان لم تدعا للتاريخ حجة ولم تتركا سبيلًا لعنات الأحفاد، هذه تركيا وهذه مصر وهذا زغلوها فأين أمتنا وأين كمالها أو زغلوها”، هذا التساؤل الذي تواتر إلينا كقرّاء، يجعلنا نتعمق في إحساسنا بالغضب، بل بالقهر ممّا كان يفعله السياسيّون في فلسطين في ذلك الوقت، ومن غيابهم عن المشهد السياسي العالمي في ظل خطر الانتداب البريطاني ومشروعه الداعم للحركة الصهيونية في إقامة دولته في فلسطين.
ونتوقف قليلًا أمام نهاية المقال الذي أشار إلى غضب بعض السياسيين على تهكّم الطبل على رجال السياسة الفلسطينيين، وكيف حرّكوا بعض محاسيبهم في مهاجمة الطبل، من خلال جريدة “ألف باء” ومن خلال مراسلها في فلسطين، وكان عدد الجريدة ” ١٩٦”، والمراسل مقيم في القدس، وكان عنوان الهجوم “جريدة الطبل”، وحمل الخبر الآتي:
“يسرّني أن أذكركم أن جريدة الطبل أصبحت صهيونية، وقد كتبت أخيرًا في إحدى مقالاتها عن المؤتمر وقالت بعدم كفائتهم وأهليتهم فلا حول ولا قوة في هذه المبادئ قد أسف أكثر العقلاء مما تم كتابته لأن كل ما جاء فيها مختلق ليس عليه مسحة من الحقيقة، وبالختام تكرّموا احترامي.
عكا-عبدالله محمد”.
هذه الافتتاحية للطبل وكيفية إنهائها تشير إلى قدرتها على رصد الجو السياسي العام آنذاك والصراعات الدائرة بين النخب السياسية الفلسطينية المشغولة بمصالحها الذاتية، ومناكفاتها فيما بينها، لكنها في ذات الوقت لم تعطِ أي اهتمام بتعريف القارئ بمن هي جريدة “الف باء” وأين تصدر؟ وكأن القارئ على علم بذلك.
وفي باب المحليّات، قد ذكرت قصة ساخرة:
“سأل أحد القضاة متهمًا: هل لك أن تقدم للحكومة قبل الحكم؟، فأجابه المتهم: لا والله يا مولاي فإن المحامي لم يترك ولا مليمًا”
هنا بدأت السخرية على وضع المحامين الفلسطينيين في ذلك الوقت، هذه السخرية المريرة التي طرّزتها الطبل على أوضاع فئة من الشعب الفلسطيني من المفترض أن تحمل قدرًا معقولًا من الأخلاق، هذا حالها المزري بالبحث عن الربح الجشع، وفي نفس الوقت تؤشّر الطبل على أنّ البلاد تتعرّض لخطر جسيم من فئة من المتعلّمين الذين من المفترض أن يكونوا طليعة للشعب، سواء بالأخلاق أو بالدفاع عن الشعب.
لا أخفي عن القارئ أنّي عندما رجعت للعدد الثاني الذي يحمل رقم “١١٧” قد فوجئت به، لقد وجدت أكثر ممّا أتصور من العدد الذي تناولته، وجدت قصصًا ساخرة تتناول كل نواحي الحياة في فلسطين، وبدت تلك القصص دراسة لعلم الاجتماع، ومن القصص التي جاءت في هذا العدد قد حملت عنوان “بين مزراع وفلاح”
“المزارع: هكذا قُسّمت الحظوظ بيننا، أنت تزرع وتتعب، ونحن نأكل، هنيئًا مرئيًا، الفلاح: ولكنّي أزرع شعيرًا”، أليست هذه القصة دلالة رمزية على الروح الفكاهية التي يتميّز بها الفلاح؟، أليس هذا رد بليغ على من أراد التنمر عليه؟، أمّا الصيغة الصحفية في هذه القصة تمتاز بالإيجاز واستخدام لغة بسيطة بعيدة عن التعقيد، يستطيع كل من يعرف القراءة قراءتها، ويخلص كل من قرأ قصة الفلاح والمزارع إلى أنّ السخرية وجه من وجوه الثقافة السائدة في المجتمع، أو جزء من الروح العام في المجتمع، وعنصر من عناصر البناء الثقافي في هذا المجتمع.
واللافت في هذا العدد الجرأة في تناول بعض قضايا المجتمع، أعتقد أنّه في عصرنا الحالي لا أحد يتجرّأ على طرحها سواء بطريقة ساخرة أو غيرها.
فجاء في القصة التي حملت عنوان “بين صديقين” :
“سأل بعضهم صديقًا له كان ربط ذراعه: ماذا جرى لك؟
حاولت أن أصعد إلى شجرة بسيارتي
وما الذي حملك على ذلك؟
مجاملة لسيدة كانت تسوق سيارة وتريد أن لا يكون أحد في عرض الشارع”.
هنا يمكننا التساؤل لماذا تناولت القصة الرجل والمرأة بهذا الشكل؟ للإجابة على هذا التساؤل ليس المطلوب الكتابة للقرّاء ما يخلب عقولهم، خاصّة أن هناك امرأة في الحدث، ولكن المطلوب الكتابة عمّا يجول في عقل كاتب القصة، وهذا يعني أن المسرح الساخر يخاطب الصغار والكبار، فإذا تم ذلك، فهما إذًا أنداد لبعضهما البعض، وهذا المغزى الأول من القصة، أمّا الثاني فهو احتجاج السائق الذي صعد للشجرة على السماح للمرأة بقيادة السيارة، كما أنه أشار لسلوك من سلوكيات المرأة حسب اعتقاده، وهو أنّ الأنا عالية جدًا عند المرأة، فهي لا تطيق أن يزاحمها ويشاركها أحد حتى بالشارع، الذي من المفترض أنه عام.
ما يميّز الخبر في جريدة الطبل أنّه جاء على شكل قصة قصيرة مكتملة الأركان الفنية، كما قامت الجريدة بتوثيق هذه الظواهر الاجتماعية بقوالب ساخرة، وفي الوقت نفسه، إنّ تلك السخرية معَدّة سلفًا، وليست من وحي الخاطرة، كما أنّها متقنة الصنع وليست تلقائية التكوين، والسخرية لفظ يوحي بالقبوب ويدفع له.
جريدة الطبل، ومن خلال النموذجين اللذين طرحناهما على القارئ، يكشفان عن نهج صحفي يؤمن أن الفن حرية قبل كل شيء، حرية واسعة إلى أبعد غايات السّعة، حرية في ضمير الكاتب وحرية للمتلقي في تناول القصة من الجانب الذي يريده، لأن الفن أثر من آثار الأحرار، لا من آثار العبيد، هذا ما حاولت تكريسه جريدة الطبل الفلسطينية، وهي على أبواب مواجهة مع أخطر مشروع صهيوني احتلالي عرفته البشرية.