آفاق حرة
علي أحمد عبده قاسم.
حين نتحدث عن القصة القصيرة، فإننا نتحدث عن فن سردي جديد يتميز بالقصر والسردية؛ فهو لايتجاوز عشرات الكلمات، ولايخلو من الخصائص السردية للقصة، ولكن بطريقة سريعة خاطفة تدعم اللحظة الخاطفة السريعة في النص، وهي بذلك فن سردي تمرد على القوالب الجاهزة في القصة القصيرة، وجاء يتناسب مع سرعة العصر والتغيرات السريعة التي يتميز بها الزمن لتكون أكثر إثارة وأكثر متابعة، بل ربما فرضت نفسها كجنس جديد يختزل الطول والأوصاف بسطور.
وبين يدي القراءة مجموعة جديدة تعد إضافة للمشهد السردي في اليمن لما تميز من اكتمال ونضج سواء من حيث الخصائص والمميزات لهذا الفن، أو من حيث قدرات القاصة الخلاقة بامتلاك الأدوات.
المجموعة ضمت بين دفتيها مائة نص في مائة وسبع صفحات من القطع المتوسط
صدرت المجموعة عن مكتبة خالد بن الوليد اليمنية للنشر والتوزيع .
أولا العنونة:
أولى النقاد العنونة أهمية كبيرة بوصفه عتبة أولى للنص وبوصفه اللوحة الإشهارية التي تثير المتلقي للدخول إلى نسيج النص الداخلي.
وأولت الدراسات النقدية العنوان في النص القصير جدا” الققج” أهمية أكبر بوصفه نصا موازيا يتفاعل مع دلالات العامة واتخذوا له مميزات منها.
– ألا يكون مكشوفا فاضحا بمعنى ألا تكشف كلمة من النص دلالاته ورسالته .
– أن يكون مثيرا وملغزا بحيث يتشابك المتلقي معه.
– أن يكون واضحا ومبهما ولكن ليس غامضا حد الأحجية.
وهناك الكثير من المميزات التي تشددوا بها خاصة مع القصة القصيرة جدا.
وإذا تأملنا عنوان المجموعة” احتراقات٤×٦”
وعند قراءة العنوان لا بد أن نعرج على الأصل اللغوي للعنوان.
((- مصدر ” احترق” احتراقا
– احترق البيت ” اشتعل نارا.
– احترق قلبه” اشتد ألمه وتأثره.
– قابل للاحتراق” مايمكن أن تشتعل النار فيه”
– الاحتراق ” احتراق مادة من تفاعل ذاتي للحرارة رافع للحرارة بين المؤكسد والوقود، والوقود بلا وجود مصدر حرارة خارجي.))
ويمكن أن نستخلص من الدلالات اللغوية مايلي:
– اشتعال النار في البيت هي: احتراق الوطن بالحرب فالمجموعة تضمنت بعض النصوص التي ترسم واقع الحرب وحياة الإنسان.
– اشتداد ألم القلب وتأثره تعكس حساسية المبدع تجاه الوطن والإنسان وحتى القضايا العاطفية والشخصية فقد تضمنت المجموعة كثير من النصوص التي تتعلق بقضايا المرأة، وهي الأغلب وأيضا علاقاتها العاطفية بأسرتها كابنها وزوجها وتلك التي تنم عن حب عميق وصادق وفي قضايا المرأة تناولت الكثير منها حد أن الأغلب مايتعلق بالمرأة.
– الاحتراقات كلها بلا وقود وبلا مصدر نار فهي احتراقات ذاتية تجاه قضايا الإنسان عموما وهذا شأن المبدع، التأثر بماحوله ورسم ذلك بإبداع وخلق.
لذلك كان العنوان موفقا لحد بعيد اختزل دلالات النصوص ورسالتها العميقة حتى في الدلالات والمرادفات اللغوية .
أما” ٤×٦” فلم تكن موفقة لأن العنوان لايوضع رقما فالرقم يحيل للدلالة الثابتة والقارة فناتج الرقم”٢٤” ويحيل رمزيا لحجم الصورة الفوتوغرافية المعروفة، وإن أرادت الصغر وديمومة الحزن بتأثير الحرب كما دل على ذلك نص” ٤×٦”
العنونة الداخلية في معظمها غير فاضحة وغير مكشوفة، إلا ما جاء في بعض النصوص كنصي” الفاتحة، أم”
ثانيا الرمزية:
من أهم مميزات القصة القصيرة جدا الرمزية: ( وهي التعبير عن الأفكار، والعواطف ليس بوصفها مباشرة، ولابشرحها من خلال مقارنات صريحة، وبصورة ملموسة، ولكن بالتلميح إلى ما يمكن عليه صورة الواقع المناسب لتلك الأفكار.)
والرمزية ” أن يستخدم المبدع الرمز لأجل التعبير عن المشاعر، والهواجس، والأفكار، والعواطف، والرؤى، والخيالات التي تضج في النفس بطريقة التلميح، والإيعاز بعيدا عن المباشرة التقريرية”
ونصوص المجموعة تضج بالرمزية في معظمها.
( شره
حاول جاهدا الحصول على قلبها دون جدوى، جرته ذريعة فشله لسؤالها عما يرضيها ..
لم تجبه، كانت منهكمة بالنظر إلى جيبه المثقوب.) ص78
فإذا كانت الرمزية إيعاز وتلميح فإن النظر والتحديق في الجيب المثقوب تلميح ورمزية عن فقره والفقر معا.
ناهيك عن المفارقة بين الإيمان بالحب، والكفر به، والإيمان بالغنى، والثراء والمصالح وأيضا فيه رمزية عن كثرة إنفاقه وأسرافه من
خلال: ” الجيب المثقوب ”
فالنص يقول أريد جيبك الممتلئ وإن كان قلبك فارغا.
وإذا كان الرمز يتيح للقارئ مساحات للتأويل، ويجعل من المتلقي في حوار وقراءة للنص حتى يصل لشفرة النص ومسكوته.
( تكميم
خلال بحثها الميداني سألت أحد السجناء عن سبب إعتقاله.
نظر إليها، أخرجت أوراقها مدونة أقواله، انتفض من مكانه حاشرا جسدا مسترقا نظراته نحو “القلم”.) ص 13
ولأن الرمزية أنواع ففي هذا النص أخذت الرمز الإبداعي ” القلم لترمز للكاتب الذي سلاحه القلم؛ فالقلم هو سبب سجنه وإذا تأملنا العنوان ” تكميم” والذي يعني” السد والمنع” بمعنى منع حرية الكلام ويتضح مقدار الرعب من خلال: ” انتفض، حاشرا جسده، بخوف”
ولأن الرمزية تتيح مساحة للتخفي فقارئ يقرأها بتأويل، وآخر بتأويل آخر؛ فليست محصورة بتأويل نهائي.
(كفارة
أقسم لها: ألا يعتلي قلبي سواك.
في التالي نوى الصيام ثلاثا.) ص19
النص مكثف بعيد عن الإسهاب عن الوصف، وعن الحوار المباشر فهو لايتجاوز العشر كلمات والتكثيف ميزة من مميزات الققج.
وإذا نظرنا للرمز فإنه يتضح من عبارة ” نوى الصيام ثلاثا”
فتحول القسم واليمين والحب إلى خطيئة وذنب، وفيه رمزية لزيف الحب وخداع المحبين ناهيك عن المفارقة بين ما بين التصديق بالقسم والحنث به، وقناع الحب ومصداقية بالواقع بالكفارة خاصة وإنها” عقوبة وضعت لمعالجة عقوبة غير مشروعة كالحنث باليمين وتفويت يوم حمن رمضان”
النص ساخر جدا حين حول الحب لذنب وخطيئة تستوجب الكفارة والعقوبة.
وليس رمزا فقط بل تناص من حديث كفارة اليمين.
ومفارقة مابين الصدق والكذب
وفي نص ” عاقبة ” يأتي برمز جديد
((عاقبة
تزوج الأرملة المسنة طمعا في مالها.
توفي في حادث سير.. ورثته.))
الأرملة المسنة تحولت من رمز للسعادة والتحول والتغير، إلى رمز للتعاسة والنهاية والشؤم. وهذا تناص مع مسرحية أحمد شوقي الشعرية ” الست هدى” كانت هذه الست هدى ثرية جدا وتزوجها أكثر من رجل وكلما تزوجها أحدهم يموت، وهي تزداد ثراء إلى ثرائها كما في النص السابق فتحولت لرمز للشؤم.
هذه إطلالة سريعة عن المجموعة المتميزة والتي أعدها إضافة للمكتبة السردية اليمنية لما تتميز من نضج واكتمال.