قراءة : أحلام حسين غانم – سورية
الشاعر العراقي د.”علي الشلاه ” في “أعماله الكاملة” بين القبض على مفاصل الشعر والمخاطر الزئبقية .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
استهلال
عرف إنسان ما بعد الحداثة وضعًا من التشظِّي والاغتراب الوجودي ، وهو ما استفز لديه الأسئلة الوجودية الأساسية حول الذات والكون والبحث في المعنى ، ونراه يشكل في الشعر حنينًا دائمًا للانهائي والذي يعد مرآة تعكس ما تعجز الفلسفة عن الوصول إليه من مناطق عميقة من الغيب واللاوعي.
مفاصل الشعر
ثمة سُؤالٌ يُراود المنصهر بالشعر، يتعلق بوضع تعريفٍ له، هل الأمر مرتبطٌ بالمحاولات المتكررة لمنح مفهوم لهذا الذي لا يُقبضُ عليه..؟
منذ الفطرة التعبيرية الأولى رام الكثير من المفطورين على الشعر مُجاورة الشعر، تأملاً ومصادقة وحفراً في المناطق البكر والجُغرافيات الحلزونية، التي ما زالت في حاجة إلى الضوء، نظراً للمخاطر الزئبقية المحيطة بها، والموانع التي تحُول دون القبض على مفاصل الشعر.
الشاعر القابض على جمر المعنى يدرك أن الشّعراء أناس سيزيفيّون ، دائمو الحيرة، والقلق، والسُّؤْل عن كنْه الحياة، وأسرارها، وتناقضاتها، وغموضها وألغازها..
الشعرَ هو الكون ذاتهُ
من خلال القلق تصل الأنا إلى وضع أنطولوجي يسمح لها بإدراك انفتاح الوجود، وهذا القلق يصاحب الشاعر في عملية بحثه عن الوجود الأصيل للذات، من خلال تحققها النهائي في الموت كنهاية لكل الإمكانيات الوجودية المتاحة لها.
وهذا ما حاولت الكشف عنه من خلال مقاربة الأعمال الكاملة للشاعر العراقي المبدع”علي الشلاه”.
مما لاشك فيه إنَّ“الشعرَ هو الكون ذاتهُ..وهو جوهر كل الكائنات..والزّمن غير قادر على إلغاء لغة هي حاجة طبيعية لاستمرار التوازن..”
قد لا يحيد القول عن جادة الصواب إذا انطلقنا من قول برادلي: “أن الشعرَ ليس في طبيعته جُزءاً أو نسخة من عالم الواقع، ولكنَّه عالمٌ بذاته مستقلٌ كاملٌ، فإذا أردتَ أنْ تمتلكه كاملاً فلابدّ من أنْ تدخلَ ذلك العالم”..
تمثلت أمامي نفحة الشاعر “جوته” قبل دخول ذلك العالم :
“من أراد أن يفهم الشعر
فليذهب إلى بلد الشعر
من أراد أن يفهم الشاعر
فليذهب إلى بلد الشاعر”
رحلة دائرية
إن هذه الدعوة تلخص وتعطي ملمحاً مضيئاً عن العراق بلد الشعر وبلد الشاعر العراقي “علي الشلاه ” قبل أن تمضي رحلتي الدائرية في الأعمال الشعرية محاولةً تمتزج مع الشعر والشاعر, داخلة إليهما محاورة النصّ والاستماع إليه بحكمة، لو استطعتها، و اكتشاف شاعريّته البديعة وما ينطوي تحت هذه الأعمال من مدلول وحيرة التساؤل ،والتي صمتت بها القصائد، وتفسيرها قبل أن تفجّر في ذات القلقة لوعة غريبة من تزاحم الأضداد، وتداخل المعاني ؛ لكن لو فشلت المحاولة الأولى ،سأعمل بنصيحته ، وأحاول ثانيةً كي لا أنتهي قبل أن أبدأ إذ يقول:
” حاول ثانيةً ..
أن تختارَ بداياتٍ لا تنهيك
حاول ثانيةُ..
أن تدخلَ كلَّ جمالِ الصحراءِ
بسمِّ خياطٍ
يزّاحم في كلّ منافذه المنهزمون “.
البّذْرَةُ الحيّةُ الأولى
إن الربط بين البداية والنهاية , وتكريس إنسانية الإنسان هو المعنى الجميل لمثل هذه المحاولة لاكتشاف هذه الأعمال, فالإنسان الشاعر, ليس بحجر نقذفه في بركة ماء, ولكنه كان البّذْرَةُ الحيّةُ الأولى في الحياة , يعطي حضوره النكهة الأصليّة لا يحسن بنا أن نتجاهلها, وليس من المفيد أو الصائب أن نجعل المعاصرة حجابا, ولكن حري بها أن تصبح مفتاحاً وجودياً /ذهبيا لمغاليق كثيرة.
يصر على البحث في ما فقده إنسان ما بعد الحداثة من يقين وحقيقة ومعنى ، ويعمل على استعادة الكائن الغيبي والقيمي والروحي في الإنسان فالشعر أكثر الوسائط إيمانا وكشفً عن البعد الميتافيزيقي في الحياة الإنسانية .
جراد الأسئلة
يعكف الشاعر “علي الشلاه “، خلال أسفاره البعيدة، بزهد العارف أن يختار الأسماءَ المثلى لجرادِ الأسئلةِ الثائر من أجل حقوق أكثرَ في مزرعة الملح على أن يثقبَ حَبَّ الوقت، وتحويله إلى فتى من فتاة النبوءة يمشي على الصوت مخالف لكل توقعات القارئ.
يميز بين أن يظل عالقا بالاتساع الرؤيوي للوجود والكينونة، والتقيد بظاهرية الأشياء وانزياحاتها، ضمن أشكال تكسر الأزمنة كي ترتاح للبعد الواحد في بسط معراج الفراغ.
عاصفة السؤال واللغة
إذ يستند الشاعر ” علي الشلاه”على جدران صلبةٍ، ليدخلنا في دوامةٍ لذيذةٍ من البوح الصّافي، إذ يسبقُ قصائدَه عتباتٌ لمن سَكنوا في قلبِ العاصفة الحداثية، عاصفة السؤال واللغة، وحيرة الإنسان وكينونته وتصدير الأسئلة لاتخاذ الحياة كما اتخذها الشاعر إطاراً لفهم الشعر.. واستخدامها أداة أساسية في تشكيل عمود الصورة وملء الفراغات الموحية لذلك المُنتظر،واكتشاف تلك البذرة التي تشكلت عنده فيها لمسات الحس الشعري الأولى.
هل الشعر ينتظر منا الإجابة على التساؤلات؛ و هل يعيبه أن يكون هو صاحب مفتاح الحقيقة الصعبة ؟
هذا يضعنا أمام مقولة سوفوكليس في تراجيديّته الخالدة”أوديب” : “كم هي مريعة رؤية الحقيقة حين تكون هذه الحقيقة ألم فحسب عند من يرى”.
مراكز الإشعاع
أجد نفسي أمام عمل محيّر يثير فيَّ تساؤلات أبدية ، ومشاعر حادّة لا أجد لها تفسيرًا ولا تأويلاً، لأنها مشاعر تسمو فوق كلّ تفسير أو تأويل وتحيل المتلقي إلى ” البحث عن المعنى في الأشياء”.. وتأتي الأسئلة النافذة إلى مراكز الإشعاع في الذات المتسائلة: من هو؟ أين موقعه؟ ما محيطه؟
الثورة على القوالب الجاهزة
ما اليقين الذي يحتاج إليه ما الصورة التي يراها لواقعه الحياتي وللوجود؟
ويأتي بعد هذا مساكنة اللغة عبر فضاء آخر يتمثل في البحث عن شخصية صلبة ترفض التجيير والتبعية, وتطلب التميز والخصوصية, متوسلة إلى ذلك بالثورة على القوالب الجاهزة ونموذج الإنسان المدجن.
” فتىُ من فتاة النبوءة
يمشي على العُري
يمشي على الصوت
يمشي على الماء
يمشي على النار
يمشي على الخوف”.
العمق الشعري الروحي
وتبدأ رحلة الإبحار مع رياح الحياة والسفر في إسار الإحساس بالمسؤولية وتحملها بكفاءة الممتلئ برسالته, فساهم مساهمة أساسية وبارزة في إنشاء الملحمة الشعرية العراقية لتمتزج فيها البعد الرؤيوي بالبعد الرؤياوي وتنسج لنا عوالم شعرية طافحة بمتخيل شعري جدير بالمصاحبة والقراءة الواعية والمتبصرة، لكون هذه الأعمال تتطلب تحفيز كل الآليات التحليلية للقبض على الدلالات المبطنة في العمق الشعري الروحي.
الهزات العاطفية
في هذا المساق، تروم الأعمال الشعرية إلى تأسيس خطاب شعري يقوم على تشكيل وعي جمالي بالحفر في البئر العميقة للذات المثقلة بالهزات العاطفية، والاحتراق بنار العشق المشتعلة بأسئلة الذات في وجود مليء بالتصدعات، وانهيار الأحلام التي تشكل وقود الإبداع الشعري الحقيقي.
في هذا المنظور ،تؤسس الأعمال الشعرية للشاعر “علي الشلاه” مشروعيتها الإبداعية من عمق التجربة و مساكنة اللغة وأصالة الرؤية ومنافي الحزن وأردية البكاء ، ومن الحيرة والقلق حوّل الكتابة الشعرية إلى جُبَّةٍ تنمو فيها أوردةُ السلالاتِ القديمةِ في صمت، برعاية المتمكّن من أدواته الإبداعية ، يبحث فيها عن مسلاتٍ ترك فيها الطغاةُ رفات أرواحِ النذورِ بلا هوامشَ ،وتغدو رمال الروح منفى قبل أن يعوي به شكلُ الوطن .
ويتجلى ذلك من خلال وعي الشاعر وخبراته المتراكمة وتجاربه الذي خاضها فيه، ليمسي النص الشعري لدى “الشلاه” غوايةً لكسر نهر الوقت ،وشرائع معلّقة للتأمل الوجودي وممارسة للتفلسف عبر الإبداع الجمالي، ليصبح الشعر عنده إعادة نظر في الأشياء وإعادة تعريف الوجود وصياغة أخرى جديدة لماهيات الموجودات.
” كنا نفتش عن بديلٍ ثالث للموت ..
جربنا وأشركنا بنا ألفاً
من السنوات ألفٌ بعدها..
إن المدى لا يتَّسع
وأتاكَ
من جهةِ الفراتِ خيالُهُ”
يقين الحيارى
لم يأتِ الشاعر “علي الشلاه ” من فراغٍ ؛تنقّل بخفّة بين السهولة والتعقيد لإنجاز قصائده؛ هو شّاعر دائم المقاومة والتحدّي ، شديد المراس، لا يؤخذ جانبه بسهولة ويسر، والسهولة الظاهرة في القصيدة، ليست إلّا شراكًا مُحكمًا نصبهُ “البابلي علي ” الذي سيلجُ قصيدته عبر يقين الحيارى، قبل أن يجد نفسه متورِّطًا، شيئًا فشيئًا، جُملةً وراء جُملة، وحرفًا خلف حرف أيضًا، في لعبة/ متاهة وبغواية شيّدها “المُعلِّمُ” بحزمٍ من التفاصيل اليومية المُنتقاة.
تشعير اللحظات البسيطة
تعمل الصياغة الشعرية للشاعر على تشعير اللحظات البسيطة واستبطان ما فيها من حكمة وجودية، واعتصار محتواها الرمزي، فمن خلال تأمل الذات الشاعرة في وقفته على رصيف القطار، بما يرمز إليه القطار ورحلات السفر من الانتقال المرحلي والتحوُّل من حال إلى آخر إذ يقول :
أخضرًا
حين يأتي المحطهْ
يضرب الطلقُ أضلاعه.. فيضعُ
ويمني مدارِكه بالوصولِ
فإذا خرجتُ منه أنثى.. بكى
واعتراه الذبول “.
مواقف دالة
يشي هذا السفر بحالة بحث، ربما يكون قلقاً أو مستمراً للذات عما ينقصها وتفتقده، أو رحيل عن مكان لم يعد لها، ولم تعد تجد نفسها فيه. وإنما تتحول الأشياء والأسطح إلى مرايا للتأمل الوجودي للذات المسافرة في حيرتها ودهشتها، ويعمل على تخليق مشاهد شعرية من مواقف دالة ولحظات فارقة كما في تمثله البكاء حين يغدو الوداعُ لقاء مع المُطلق حيث يقول :” نلتقي..
نلتقي ..حينَ تنجب زهرةَ المطلق
نلتقي رُسلاً
في المدى المُعتَّق ”
ما الذي يراه الشاعر في المدى المُعتَّق بالشعر؟
دائرة الأضرحة
فاختزل المدى صهيل السرير وانكسار الشفاه و اللافتات جملة الانفعالات لحظات المكاشفة واحترف تغريدة جمعت بين الأضداد…الانفعال الانكسار الموت الحياة .. لنجد أنه ألغى الطمأنينة والدعة وانتحى الحيرة والجرأة كالنصر والانكسار…و أيقاظ الألم الدائر كدائرة الأضرحة ..إذ يقول : الشتاءات ليلُ الكوانين
عريُ الجريدةِ
بردُ المذيعِ.. انكسارُ الشفاهِ
على أولِ الضحكات
تدور كدائرةِ الأضرحةِ..”
ويردف قائلاً :
هكذا سنسمي مواليدَنا ..والشوارعَ
باسم الحروب المؤجلة الحسم..
والنصر.. والانكسار.. ”
صيّاد التفاصيل المُدهشة
وإذا أمعنا النظر حالة صيّاد التفاصيل المُدهشة “علي الشلاه “في مساره الشعري الطويل نتلمس الإرهاص الذي يتوالد في رحلة وجودية أنطولوجية ،ونتلمس قاموسه الخاص في تطويع الكلام والمعنى والمتخيل في قوله:
“كِلا الضفّتينِ أريدُ
وأصغي.. كشيخٍ بلحيتهِ ألفُ طفلٍ
..كطفلٍ بلثفتهِ ألفُ شيخ ”
نلاحظ كيف حاول إنزال اللغة من أوهام عضلاتها البلاغية محاولاً تهشيم الجمجمة الكلاسيكية للأسلوبية المتداولة ولم يستعن بأسطورة من الداخل ولا بمرجعية من الخارج لنقرأ هذا المقطع:
“سأقدُّ الساعةَ- من دبرِ -أوردتي
وأنيمُ قميصكَ في برد سكاكيني
لينالَ الشاهدَ من أهلي
قلقُ المُطلق
وأخطاءُ التكوين
ليجيءَ الأخوةُ من صلبِ أبيكَ نخيلاً
ينتعلون الماء”.
دفتر العائلة
انتمى الشاعر “علي الشلاه” إلى دفتر العائلة/ المكان إلى الدهشة إلى العباءات والأضرحة البابلية كما عاشها وارتوى منها، و أعطى للكلمات المهملة في قاموس اللغة حضورًا أوفى ودلالات حيث يقول : الأب
مثلُ ساقيةٍ في الهواء
يدخل الآن عيني
وتبقى على خدِّهِ
ندبةٌ تتقدْ
كنت أحسبُهُ مرةُ والدي
وعدوِّي الأثير
وصباحيَ المنفردْ”.
في فجوة الاشتهاء تتجلّى فاعلية التشكيل الشعريّ ويتراكم نتاج شعري له خصوصيته، التي تمتح وجودها من تصور متفرّد في الكتابة الشعرية ، كي بدو لنا أن الشعر بالنسبة إليه، عقيدة أبدية آمن بها، ومازال مُخْلِصاً لها رغم ما يعرفه العالم من ضياع وتهميش للشعر .
هل من الممكن الاستغناء عن اللغة للوصول الى فجوة الاشتهاء…؟
لحظة التلاقي
يحمل المقطع التالي لغة لا تنحني إلا لتخوم الخارق ينهض منها الشعر والشاعر في اللحظة نفسها لحظة التلاقي للمثول في رحاب زمن الإبداع ومنها.. إذ يقول :
“لا نساءَ لنا كي نقولَ لأرواحهنَّ
لغاتِ انكساراتنا
من سيقنعُ هذي الدُّمى
في السرير
بأني لا أرتوي دونما ذكرياتٍ تعطرُ عُري !
قادمٌ منكِ سيدتي
هل علمتِ أنّكِ أشعلتِ كلَّ النساء برأسي”
وفي توليفة متناغمة الأضداد تحتفي بإغفاءة الروح كموطن أبدي للموت وللحياة يقول: “فإنِّي مصلٍّ على تلةِ الأفقِ وحدي
وهذا المساء اعترافي
تركتم ذئابَ الخليفةِ تثغو بآجالكم
وتبعتم خرافي.”
التمثيل الحسّي
عند الحديث عن التضاد في الصورة الفنية ،فإنه يمكن القول إن الصورة تعد من أهم مكونات التجربة الإبداعية عند “الشلاه”، وتنبع تلك الأهمية من كون الصورة تمثل الأداة الرئيسية التي استخدمها في التعبير عن التضاد، ونقل مشاعره للمتلقي؛ فهي “الوسيلة الفنية الجوهرية لنقل التجربة نظرًا لما تقوم به في العمل الأدبي؛ حيث التمثيل الحسّي للتجربة الإبداعية الكلية، ولما تشتمل عليه من مختلف الإحساسات والعواطف والأفكار الجزئية، فالتضاد والصورة الفنية “عنصر حيوي من عناصر التكوين النفسي للتجربة “. في نص تضاد حيث يقول :
“ماذا روى الأحياءُ
للموتى وقد هربَ الطريق
ضدان رجع صداهما
ضجر عقوقُ
وأحارُ في الأسماء
وهي غوايةٌ صلعاءُ
أو عبدٌ طليقُ”
و في نص ” التيه تومئ لي يقول:
لا رملَ لي كي أفتحَ الصحراءَ
تيهٌ يثرثرُ بي ويطلقني من موبقاتِ الوقتِ،
الناسُ أمكنةٌ تذوي بأخرى ،
وأنا أصفُ الفراغَ بأوهامٍ جديدة ،
ما جاء في الألواح قد يأتي،
وقد تلوتُ الماء للعطشى ،
ما جاء في الألواح قد يأتي،
فدع للقول ذاكرةً أخرى ،
وحاول أن تجيءَ من السؤالِ إلى السؤال “.
“نبوءة”
يلفت الشاعر انتباهنا تدريجياً لما يريده في النص/نبوءته ، بؤرته ، وهذا التيه الذي يومئ للشاعر يحفزني للاعتقاد أنَّ جدلَ السؤال والجواب باعثٌ حقيقيٌّ لأي فعلٍ فلسفيٍّ، فقد تتصور بأنَ للسؤال الوجودَ الأولَ ثم يأتي الجوابُ, لكنَّ المتأمل لحقيقية ما جاء في الألواح البابلية يجدَ أنّه ــ هو التيه /الآخر ــ محفزاً صالحاً لتوليد الأسئلة, وهكذا يستمر الجدل, وتتولد ذاكرةً أخرى كما في ومضاته، يقول في “نبوءة”:
أُكتشِفَ الممدوحُ ببابِ الرملِ وحيدًا
والأنهارُ بأبوابِ الشعراءِ
إنَّ الكوفةَ عطشى
وأبا الطيِّبِ .. سقاء
فلسفة المعنى
يتبنى الشاعر الرؤيا وفلسفة المعنى والوجود نسقاً لكينونته الشعرية، انطلاقًا من مواجهته في مرايا السؤال ، حيث تتجلى مواقف الذات الشعرية ملونة بحس انهزامي حاد ، يشبه الوقوف أمام الموت ، لكنه ليس موت فرد ، بكل ما يستدعيه موت الفرد ذاته من تداعيات الألم والعجز والفقد ..
إنه موت أشمل وأكبر ، موتى جماعي يطال العالم والكون بأسره بكاتم للصوت.. وبكاتم للصوت يبعث على التأمّل وإعمال النظر، بضربٍ من المعاناة، والخوف والتوتّر، حيناً ، وبالخيال المجنّح ،والتساؤل حينًا آخر.. يومض في “تساؤل ”
قلت لي خائفًا..
لا نملكُ حتى الصَّمتَ
فَلِمنْ كاتمُ الصَّوتِ هذا ..؟
لعبة أخطاء
يضعنا الشاعر وجهًا لوجه أمام لعبة أخطاء أو في علبة أخطاء/أم إنها مناوشات تنظيرية تعطينا بعض الأمل في مواصلة المطاردة والمراودة لكائن لغوي زئبقي، يُقيم في تُخوم اللانهائي، ويؤمن بالترحال في المفاوز الملتبسة، المفضية إلى عالم الإبداع الملتبس، والبعيد عن الوضوح والتصريح والقريب من الإشارة والتلميح..؟
حيث يقول في لعبة أخطاء:
“هذه اللعبة أعشقها
أخطئُ وأتأملُ أخطائي
أصلِحُها مذعورًا،
خوفَ عيونٍ غيرِ عُيوني
لكنِّي بعد التَّغييرِ أشكُ،
أبقي النصَ رَمادًا من شكٍّ ويَقيني
العالمُ ما فيه صوابٌ يُصلِحُهُ إلا الأخطاء”
“لغة ثالثة ”
كشاعر رائي يتهجى منطق الطير ولا ينطقه خجلا من “لغة ثالثة ” ولكن لسان حاله يعكس لنا مقولة :”إن سيرورة الشعر لا تقف عند حدود نقطة ما، وإنما تحفر طريقها بإرادة الحتمية الوجودية، التي تؤثر في مسيرتها غير الراسية على شط واحد، نظرا لما تعرفه من ترحالات لانهائية كمنطق الطير عند الصوفيين، يكون لها أثر ما على معالم الشعرية ، وهنا مكمن لإثباتية الشعر مفهومًا وتصورًا ورؤى .
إذ يقول :”
أتهجَّى منطقَ الطيرِ
خجلاً من لُغةٍ ثالثةٍ
تتلاشى بَعدَ سطرينِ
وأبقى أعْرجًا يَمشي بأقدامِ سواهُ .”
و في نص آخر يدعو إلى ضرورة الخروج عن اللغة المعيارية، والانتصار للغة تتخلق من كيانها، بعيدا عن التأثير الخارجي،لأنَّ هذا التأثير الخارجي لن يؤدي دور المحرك والمحور للغة، بل يشكل المعيق للمغايرة التي تمثل سمة من سمات التجديد الشعري… وبصوت المنادى ينادي: يا الله
اللصوصُ يسرقونَ أفقَ الكلماتِ السماوية
وأنا أسحبُ الأفقَ في هذه الصحراءَ خلفي،
لأعيدَهُ إلى كلماته المقدَّسة،
وأحاولُ ربطَ الضِّفّتينِ بِدموعي .
عصارة البوح :
إن الذات في الشعر هي العارف والمعروف في آن ،لأنها تبحث عن حدودها فيما تبحث عن معناها، وهو البحث عن الماهية والجوهر، الذي يبدو في ظاهر الأمر منفصلا عنها، لكنه في الحقيقة ملتحم به وملابس له ،وهو ما انتبه إليه رولان بارت، “الذي رأى أن الذات العارفة موجودة في كل موضوع للمعرفة .”
تنتمي أعمال الشاعر “علي الشلاه ” إلى نصوص الرؤيا التي تستبطن معاني الوجود والطبيعة وتكوين الذات الإنسانية ، وعليه حاولت أن أقف بخجلٍ شديد على ما يتركه الكون من صدى حي في ذات الشاعر، و ما تحفر في فلسفات الما قبل التي تؤوب بنا إلى الماهيات الأولى والعناصر الأصلية وأنطولوجيا الخلق.
فكانت الأعمال الكاملة للشاعر العراقي “علي الشلاه” في تجاور روحي مع الشعر، منذ الإهداء الذي انسلخ من الغرضية الشعرية إلى تلبية نداء الشعر المشبع برائية جديدة تتساوق مع نداء النقطة الأولى، فبرزت الذات كمحور العملية الشعرية، دون الانفصال عن السؤال المعرفي الوجودي والذي تتوحد العتبات الشعرية في كُنههِ، و كأنها مهداة “إلى القادمين من عتمة المستقبل بارتباك الماضي ،إلى أسلافنا الطالعينَ غدُا” لتكون دليلاً للباحثين عن المناطق اللانهائية في الذات والعالم ،وللسائرين إلى حيث العيون تمشي إليه .