“النص”
عيناها قصيدة
لم يكتبها شاعر بعد
كفاها خريطة وطن
لم ينبت إلا الحب
رغم الصفعات
كانت أغنية للدنيا
خداها رغم العاصغة
أعلنا التحدي
وأقسما أن يصفعا وجه الموت
بكف الحياة,
“القراءة “
إن هذه القصيدة الموجزة، على الرغم من قصرها، لا يمكن اعتبارها مجرد وصف عابر، بل هي نافذة عميقة تطل على عوالم نفسية مكثفة للشاعر محمد صوالحة، كاشفة عن صراعات داخلية، وتطلعات نفسية، ومقصدية تتجاوز المعاني السطحية. إذ يمكننا الغوص فيها من منظور التحليل النفسي الأدبي، مستنيرين بمفاهيم مثل اللاوعي، وآليات الدفاع، والتسامي.
تفتتح القصيدة بعبارة “عيناها قصيدة لم يكتبها شاعر بعد”، وهي جملة تكشف عن نزعة مثالية شديدة لدى الشاعر. فهذه الصورة لا تصف جمال العينين المألوف، بل ترفعهما إلى مستوى الجمال الفائق، جمال لم يدركه أي مبدع بعد. وهذه الرغبة في التجاوز واكتشاف ما هو أسمى من المتاح، قد يعكس إحساسًا بالضيق من الواقع أو عدم الرضا عن المحدودية البشرية. إنها تعبير عن تعويض نفسي، حيث يخلق الشاعر عالمًا داخليًا خاصًا به يتميز بالجمال المطلق واللامحدودية، و ربما هروبًا من واقع قاسٍ أو نقص ما .. كما تشير إلى سعي حثيث نحو الأصالة والتفرد، والرغبة في عدم التكرار، وهو ما يتطلب نفسًا متمردة على المألوف.
ثم تأتي صورة “كفاها خريطة وطن لم ينبت إلا الحب”. هذه الصورة تتجاوز الجمال المادي إلى رمزية أعمق بكثير، خاصة في سياق نفسي. “الوطن” غالبًا ما يرتبط بالانتماء، الجذور، والأمان، وعندما “لم ينبت إلا الحب”، فإنه يشير إلى مكان مثالي، أشبه برحم دافئ. وهذا قد يعكس حنينًا لا واعيًا إلى مرحلة طفولية آمنة، أو بحثًا عن ملاذ روحي بعيد عن صراعات العالم الخارجي. أما الكف، بما تحمله من معنى العطاء والاحتواء، فتكتسب هنا بعدًا أموميًا يوفر الحماية والمحبة غير المشروطة. وقد يكون هذا “الوطن” ليس جغرافيًا بالضرورة، بل هو وطن نفسي داخلي، وهو ملاذ للشاعر يجد فيه الطمأنينة والأمان والحب الخالص، وربما هو تعويض نفسي عن تجارب مريرة أو صدمات خلفت شعورًا بالحرمان من الحب أو الأمان في الواقع. فالشاعر هنا يعيد بناء عالمه المثالي حيث الحب هو القانون الوحيد.
تنتقل القصيدة بعد ذلك إلى نقطة تحول عميقة مع “رغم الصفعات كانت أغنية للدنيا”. هذا المقطع يكشف عن مكابدة نفسية كبيرة، فالصفعات هي رمز للألم، للخيبات، والصدمات. لكن الأهم هو ردة الفعل، أي تحويل الألم إلى “أغنية”. وهذا ليس مجرد تفاؤل، بل هو عملية نفسية عميقة تسمى التسامي، حيث تتحول التجارب المؤلمة إلى طاقة إبداعية. فالشاعر لا يستسلم للألم، بل يحوله إلى رسالة حياة، مما يدل على مرونة نفسية عالية، أي القدرة على التعافي من الشدائد والتكيف معها.
وفي الختام تتوج القصيدة ذروة التعبير عن الإرادة النفسية والوجودية، “خداها رغم العاصفة أعلنا التحدي وأقسما أن يصفعا وجه الموت بكف الحياة”. “العاصفة” هنا هي رمز لكل التحديات الكبرى، سواء كانت صراعات نفسية داخلية كالقلق واليأس، أو تحديات خارجية كالمرض والفقدان. وإعلان التحدي من “الخَدين” يشير إلى أن الجسد (كرمز للحياة الملموسة) يتحد مع الروح (الإرادة) في مواجهة شاملة، مما يعكس توازنًا نفسيًا قويًا. فالجملة الأخيرة هي ذروة المواجهة الوجودية والتحرر من الخوف. الشاعر هنا لا يخشى الموت، بل يتحدى العدمية ذاتها، مؤكدًا أن الحياة هي قوة فاعلة، قادرة على الانتصار حتى على النهاية المحتومة. إنها رفض الاستسلام لليأس، وتأكيد على قيمة الوجود والجهد في بناء المعنى، وتحرر من الخوف الأكبر للإنسان، واستبداله بإرادة الحياة التي لا تقهر.
أما مقصدية القصيدة من منظور نفسي، يمكن تلخيصها في عدة نقاط. أولها التأكيد على قوة الحياة والإرادة البشرية، وإبراز لقدرة الإنسان على الصمود وتحويل الألم إلى قوة وإبداع. وثانيها، دعوة إلى التفاؤل المقاوم، الذي ينبع من عمق المعاناة ولا يتجاهلها. وثالثها، احتفاء القصيدة بالجمال لا كصفة خارجية، بل كقوة دافعة داخلية كامنة (القصيدة غير المكتوبة، الحب الخالص) تدفع الكائن للتمرد على القبح والموت. و رابعها، بيان وجودي عن قيمة الحياة، وكيف أن تحدي الموت ذاته هو ما يمنح الحياة معناها الأعمق. و أخيرًا، التعبير عن الذات الشاعرة، وعن فلسفتها الشخصية في التعامل مع الحياة والموت، وقدرتها على التسامي بالآلام وتحويلها إلى رؤى شعرية ملهمة.
الشاعر في هذه القصيدة لا يصف الواقع بقدر ما يكشف عن عمق ذاته، عن نفسية معجونة بالأمل والتحدي، نفسية لا ترى في الألم نهاية، بل بداية لانتصار آخر، وغناء آخر للحياة.