#أنقاض المعنى وصعود الذات: معمارية الرمز والتشظي في مدينة الكلام.
The Ruins of Meaning and the Ascent of the Self: The Architecture of Symbol and Fragmentation in “The City of Speech”
#عتبة العنوان: من المجموعة إلى القصيدة
يشكل عنوان المجموعة”وُلدتُ ثريًا” عتبة مفارقة ومراوغة تنفتح على تأويلات تتجاوز المادي إلى الرمزي، كأن الشاعر يعلن ثراءه الأول في اللغة أو في التجربة الوجودية الكثيفة، لا في المال. وعند الانتقال إلى عنوان القصيدة “مدينةُ الكلام”، تتضح بنية التوازي مع العنوان الأم: فكلا العنوانين يبنيان عوالم رمزية، الأول ذاتيّ/إعلانيّ، والثاني مكانيّ/لغوي، مما يعزز التناص الداخلي بين القصائد بوصفها محطات في رحلة وجودية لغوية.
البنية النصية والتحول الدلالي: القصيدة قائمة على مقاطع شعرية متوالية، تؤسس لوحدة إيقاعية داخلية من خلال التكرار البنائي لعبارة “هذه الليلة”. هذا التكرار ليس مجرد تقنية بلاغية، بل يمثل لحظة وجودية ضاغطة تعيشها الذات المتكلمة، لحظة تعيد تشكيل الزمان في أفق شعري مشحون بالتحول والبحث والارتجاج الداخلي. إنها “ليلة وجودية” بامتياز، تمثّل نقطة تحول في علاقة الذات مع العالم.
الصوت الشعري والتحول الذاتي: يحضر الصوت الشعري هنا بصيغة داخلية introspective، حيث ننتقل من مشاهد خارجية (الجدران، الضجيج، الحطام) إلى أعماق الذات، حيث “طفل قابع” و”بحث عن النفس”. هذا الامتداد من الخارج إلى الداخل هو سمة من سمات القصيدة الحداثية، التي لا تكتفي بوصف العالم بل تنقب في الباطن، وتجعل من الشعر وسيلة للوعي بالذات وتحليل تمزقاتها. الذات في القصيدة ليست مكتملة، بل مشروع وجودي قيد التشكل تتأسس من خلال
اللغة وفيها
ثنائية البناء/الهدم: يلاحظ اشتغال رمزي على ثنائية الهدم والبناء، أو الحضور والغياب في المقطع الأخير:
“أبحثُ عن الحطام / في يمّ الحطام”
نلاحظ تكراراً دائرياً يحيل إلى نظرية التفكيك الخلاق حيث لا يكون الحطام مجرد خراب بل مادة أولى لإعادة بناء الذات والعالم. النص لا يندب فقداً ، بل يحوله إلى فضاء محتمل للخلق ، وهذا من خصائص الكتابة الشعرية الحداثية التي تتجاوز الرثاء إلى الوعي بالتشظي كجزء من الكينونة، كما يشير ميشيل فوكو: “حيثما يوجد هدم، فثمة دائمًا إمكانية لبنية أخرى تظهر، أكثر تعقيداً وربما أكثر صدقاً.”
الرمز والأنثى: تحضر الأنثى في النص بصور رمزية متعدّدة:
الطفلة التي “تواسي الطفل القابع في أعماق الكلام”، تمثل الحنوّ، الأمومة، وربما براءة الذات الماضية.
“القصيدة” التي “ترتدي الصعود” تجسد الأنثى بوصفها إلهاماً شعرياً ، تتقاطع فيه اللغة مع الرغبة.
“هيفاء اليوم” رمز للجمال الهارب والزمن الآني، تعبير عن الرغبة المتجددة في التماس المعنى من خلال الجمال والأنوثة.
وهذا التنوع الرمزي للأنثى يكشف وعياً شعرياً يربط الأمل، الجمال، والعزاء بصورة المرأة، لا ككيان جسدي بل كدالة شعرية، على غرار ما عبر عنه الشاعر أنسي الحاج بقوله: “أحبكِ كأنكِ المعنى، لا امرأة. كأنكِ أول اللغة، لا جسداً.
اللغة والانزياح : اللغة في النص تنأى عن التقرير والمباشرة، وتشتغل في حقل الانزياح والرمز. الألفاظ المختارة (“اللُهاث”، “إقليم الأحزان”، “ترتدي الصعود”، “يمّ الحطام”) كلها تؤشر إلى اشتغال لغوي واعٍ بتكثيف المعنى. اللغة هنا لا تنقل واقعاً بل تنتج عوالم بديلة، وتمارس فعلاً إنشائياً في تشكيل الوعي والذات.
وهو ما ينسجم مع رؤية هانس جورج غادامير الذي يؤكد أن: “اللغة ليست وسيلة للتعبير عن الفكر فحسب، بل هي الأفق الذي يتشكل فيه فهمنا للعالم.”
وبالتالي فإن قصيدة “مدينة الكلام” لا تقف عند حدود التجربة الذاتية أو التخييل الرمزي، بل تتجاوزها إلى سؤال الشعر نفسه: كيف تكتب الذات وجودها وسط الخراب؟ كيف تبنى مدينة من الكلمات في عالم يتهاوى؟ في هذا النص، يلمح القارئ أن وظيفة الشاعر لم تعد محصورة في التعبير عن العاطفة أو وصف الواقع، بل باتت مهمته أقرب إلى المعمار الروحي واللغوي بل إعادة تشكيل الذات والعالم عبر اللغة كفعل خلاق.
في هذا السياق، تتحول “الثروة” المشار إليها في عنوان المجموعة إلى بيان شعري غير مباشر أي الشاعر ولد ثرياً ليس لأنه يملك، بل لأنه يقدر أن يبدع من الفقد، أن يشيد من الحطام رؤى جديدة للذات واللغة. والمدينة هنا، ليست فقط صورة رمزية للداخل الإنساني، بل مرآة معقدة لتاريخ الكتابة الشعرية، حيث تختلط الأزمنة، ويصير الكلام ذاته مادة للبحث، لا مجرد وسيلة للبوح.
إن القصيدة تجسد بعمق مفارقة الشعر الحديث: أنه يولد من الحطام لا من الاكتمال، من الارتباك لا من الجواب، من التيه لا من الطريق. لكنها لا تغرق القارئ في السلبية، بل تقترح نوعاً من الانبعاث الرمزي، حيث يصبح البحث عن المعنى وإن كان في “يمّ الحطام” – فعلاً وجودياً يليق بالشاعر وبالقصيدة.
بهذا المعنى، فإن “مدينة الكلام” لا تكتفي بأن تكون نصاً تأملياً، بل تنهض كـأنطولوجيا لغوية، تسائل الذات، اللغة، والكتابة، وتجعل من كل ليلة وجودية معبراً نحو ذات تتجدد في كل قصيدة.