آفاق حرة
عبدالجبارنوري
جاءت روايات أيزابيلا ألليندي كي تعالج وتفند العديد من الآراء الخاطئة كي تتحول أعمالها إلى أكثر الروايات شعبية في العالم ، وأخذت النجومية والصدارة بين كتاب أمريكا اللاتينية ، ورواياتها الأدبية تعد من أهم أصوات الأدب والذي يسمى ب( جيل الواقعية للأرواح السحرية ) والذي عبر عنها الروائي غابريل غارسيا من خىلال رائعته ” مائة عام من العزلة ” .
وهنا أنفردت ” أيزابيلا بأطلالة حداثوية في عالم الأدب التي هي ” الواقعية السحرية” بتوليفة الحبكة السردية مع أسطورة الفانتازيا العالية في ملحمة عائلية ترقى إلى ما يعرف حداثوياً بالأدب الملحمي حيث وجدت الروائية العبقرية التشيلية تفاسيرها في حركة التأريخ التي هي ذاكرة الأمم والشعوب في صراعاتها الطبقية ، وهو شيءٌ طبيعي حين تنحو الطبقات الفقيرة إلى ما هو معروف بألعاب الحظ ولو أنها من أختراعات مافيات المال والفساد للوصول إلى المال السهل ، وهنا تقول : أيزابيلا ( أنهم نسيوا أن هذا الطريق لا يفيد ألا ممارسيها ومشغليها وأن الثروة الحقيقية هي ( المعرفة ) وتردف هل توافقوني الرأي؟ ) .
وفي حواريات الرواية ” بيت الأرواح ” توضحت هويتها اليسارية الثورية عند تعرض بيتها وبيوت المحاصرين لمداهمات سلطوية غير قانونية بأمر من بوش بالقرب من مسكنها عند خليج سان فرنسسكو وجدت ألليندي نفسها تقود المسيرة الأحتجاجية وتردد نفس شعارات السبعينات في تشيلي { الشعب المتحد لن يقهر } لذا عرفت ألليندي على أن تكون ناشطة نسوية وهي أول من تبنى شعار {المذهب النسوي } .
رواية “بيت الأرواح” طقوس أيزابيلا في الكتابة
لكل كاتب طقوسه الخاصة عبر ما مرّ به من ظروف نفسية وجمعية عندها يبدع بنسج الحرف ، فمثلا أجاثا كريستي ألهامها الحمام هو المكان الملائم الذي تأتي فيه أفضل الأفكار ، أرنست همنغواي أديب نوبل الذي فضل الكتابة واقفاً على قدميه ، ويكتب المسودة بقلم الرصاص ، والجواهري الشاعر يكتب شفرة ستين بيتاً شعرياً على علبة السكاير ، وتعتبر ألليندي من مبدعات الحرف قدمت للقراء أجمل تشكيلة من منجزات أدبية في الأدب اللاتيني منها بيت الأرواح ، وباولا ، وأبنة الحظ ، وصورة عتيقة ، وأفروديت ، فأيزابيلا ألليندي الروائية التشيلية تكتب بصحبة الزهور وتوقد الشموع للأرواح وتحيط نفسها بالبخور وتجلس على مكتبها في الصباح الباكر وتقول : أنها تجهز تلك الأجواء ولا تعلم تحديداً ماذا ستكتب على وجه الدقة ، وعادة تكتب مباشرة على الكومبيوترولا تستخدم الأوراق ألا ما ندر .
تدور سرديات الرواية “بيت الأرواح” نهاية القرن التاسع عشر في دولة تشيلي ، نُشرتْ الرواية عام 1982، حازت الكاتبة بها على جائزة الأدب البارانومي ، وتُرجمتْ إلى ما يقارب الثلاثين لغة ، وحولتْ هذه الرواية إلى فيلم سنة 1993 بطولة الممثلة الأمريكية ((ميريل ستريب ) ، وأجواء الرواية الأسطورية المعتمدة على التوليف الجميل والرائع بالربط بين الواقع والأسطورة وبعبقرية نادرة وبحبكة درامية ترقى إلى الملهاة ذات النهايات الحزينة والمؤرقة أحياناً كثيرة بيد أنها بقيت عالقة بالروح لتجربة عايشها الكثير منا حتى وأن لم يقم بأطلالة على مجريات أحداث الرواية ، وتتمكن هذه العجوز المعجزة من التأثير المباشر في تحريك خيوط اللعبة الدراماتيكية في ملامسة أحاسيس الروح للمتلقي بمشاهدة أجواء العنف والحرائق الآدمية للماضي البعيد والقريب لتكوّنْ منها سحابة داكنة من الأسى في الحاضر ، وتبدأ العمل في كل رواية بعد أجراء بعض طقوس التأمل التي تشمل أشعال الشموع وتبخير أجواءها بتمتماتٍ سحرية متناغمة مع الوجدان وهي تقول : {أنا أمرأة سياسية تكتب التأريخ الخفي للحب والجنس والعواطف من دون الأهتمام بالأسباب الأقتصادية التي خلقت أحداث التأريخ ، أنا مهتمة بما يحدث للناس ، لأمي وجدتي وقريباتي والنساء في الشارع والأطفال } ، وهوشيءٌ جديد وطاريء لم يُذكرْ في نصوص الكتب الرسمية ، وأكتشفت خلال غربتها في فنزويلا : { بأن جذور الأنسان ترتبط بدواخله وليس بجغرافية الأرض ، وهي تقول لجدها في أول الرواية كرسالة : بأن الناس يموتون فقط حينما تنساهم ، وأنا لن أنساك مطلقاً .
وأنها تروي وقائع حقيقية مع شيء من الخيال ، وهي حقاً ملحمة رائعة تروي مجريات تلك الأسرة التي وظفتها أيزابيلا في بيت الأرواح تعايش مجريات زمنها وتأريخها ، بيد أن هذه المعايشة المسكونة بالأرواح قد تجاوز قدرهم الزمن والتأريخ ككل ، وأن الشقاء يتطور بريشته البارعة السحرية فينقلب إلى (مقاومة ) والثروة تتحول إلى طاغية مستبدة ، وأن تفسير أحداث الرواية تسير بكل أنسيابية شفافة تكاد تكون فطرية طوعية فيها كل شيء هش وكل شيء عميق وكل شيء تفسيره صعب ، وترفض أن يكون هذا قدرها ، لأن مصير الشعوب لا يمكن ألا أن يكون جميلاً ، غير أن الكاتبة والروائية التشيلية اليسارية الواقعية تكشف عن سر الخطأ والصواب وترى عبر المشقة والألم المتجسّدْ بالصراع الطبقي للوصول إلى المستقبل بأنواره ، وتحلم — وتحلم كما هوديدن الشعوب في أدمانها في تعاطي هذا المسكن (الحلم ) ربما وبالتأكيد تتحقق الألوان لأنّها مغموسة بدم تلك الشعوب ، وتحث على تكملة مسيرة الألف ميل بالتضحيات ونور الأعمال لأنها من رؤى الشعوب المقهورة التواقة للتحرر والأنعتاق تلك هي بيت الأرواح وتريد أن تقول في النهاية : { — تجربة تشيلي خطأها وصوابها والتضحيات العظيمة تتلخص بشهادة ” ألليندي ” والأمل الذي لا حدود له } .لذا أصبحت رواية ” بيت الأرواح ” تجسّد الواقعية السحرية المطرزة بالفنتازية السحرية ، فكانت محاولة جادة لأستعادة الوطن الذي خسرتهُ والعائلة التي فقدتها ، بل هي الرواية التي أوصلت مؤلفتها إلى النجومية وحازت الكاتبة على جائزة “الأدب البانورامي” لكون الرواية لها أبعاد سياسية وسوسيولوجية وترويها بشفافية سامقة من خلال شريط مذهل من الواقعية السحرية عبر توليفة فنتازية محببة.
وأخيرا تكتمل المتعة بقراءة رواية بيت الأرواح لأيزابيلا الليندي حتى تغدو قهوتك بطعم الكتب —-
في كانون ثاني – 2021
أديب عراقي مقيم في السويد