بقلم: منال العبادي
يُعدّ استخدام السرد الاقتصادي في المجموعة القصصية “تدريب على الغياب” للقاص طارق عودة تحديًا إبداعيًا حقيقيًا، يدفع الكاتب إلى استخراج جوهر القصة وتجسيده بأقل قدر من الكلمات، مع الحفاظ على قوتها التعبيرية وعمقها الدلالي، وقدرتها على إثارة الدهشة والتأمل.
فـ”السرد الاقتصادي” ليس مجرد اختصار أو حذف عشوائي للكلمات والجمل، بل هو فلسفة فنية تهدف إلى تحقيق أقصى تأثير بأقل مساحة لغوية ممكنة. وهو من أبرز سمات القصة القصيرة جدًا (الققج)، حيث تتسم النصوص بالتكثيف الشديد، وتُصبح كل كلمة فيها ذات دلالة، ولا مجال للزخرفة اللفظية أو الحشو.
تعتمد الققج على مشهدٍ مركّز، غالبًا ما يكون واحدًا حاسمًا، يحمل لحظة مفصلية أو منعطفًا حادًا، كما أن الشخصيات تُقدَّم بشكل مكثف دون تفاصيل، ويعتمد السرد على الحذف الذكي والقفزات الزمنية والمكانية.
وفي هذا النوع من القص، كثيرًا ما تأتي النهايات موحية أو مفتوحة، تاركةً المجال للقارئ كي يستكمل الدلالات والعواقب المحتملة. ويبدو السرد الاقتصادي هنا في أبهى تجلياته: لا يُقال كل شيء، لكن يُقال ما يكفي لإثارة كل شيء.
في “تدريب على الغياب”, يتوغّل القاص طارق عودة في هشاشة الذاكرة، راسمًا خارطةً أدبية معقدة لغياباتنا القسرية والطوعية، في عالمٍ تتلاشى فيه الحدود بين الحضور والغياب.
وتأتي المفارقة بدءًا من العنوان ذاته: كيف يمكن للغياب، ذلك الفراغ الوجودي، أن يكون موضوعًا للتدريب؟ وكيف تمارس الذات فن الاختفاء، لا كخسارة، بل كخيار أو قدر؟
تعالج القصص ثيمات متداخلة، أبرزها:
الغياب كخيار وجودي: الانسحاب من حياة الآخرين احتجاجًا على علاقات فاشلة أو ذكريات موجعة.
الغياب القسري: الناتج عن الحرب أو الموت أو النسيان.
الغياب كاستعارة للحب: جسديًا أو عاطفيًا، وسيلة لإعادة تعريف العلاقة أو اختبار معناها الحقيقي.
تتميّز المجموعة بأسلوب سردي يقلب المعايير التقليدية للزمن والمكان، إذ يتقنّع الغياب بلغة شعرية تمزج بين الحلم والواقع. تتلاشى المشاهد كما الذكريات، وتُحدث الشخصيات فراغًا متعمَّدًا ليملأه القارئ بوحدته الخاصة.
وتطرح القصص سؤالًا وجوديًا مثيرًا للقلق: هل يمكن للإنسان أن يتعلم الغياب؟
لعلّ الإجابة تكمن في محاولات التكيّف مع الفقد اليومي: فقد الأحبة، الأوطان، أو حتى الذات. هذه النصوص لا تقدم عزاءً، بل تكشف الجراح التي نتعمد إخفاءها.
إنها مجموعة تُشبه مرآةً لمن يشعرون بأنهم أطياف في حياة الآخرين، ومنارةً لمن يحاول أن يفهم: كيف نعيش حين يغدو الغياب اللغة الوحيدة المتبقية؟
قراءات موجزة في عدد من نصوص المجموعة:
—
مجد
“لقد بنيتُ مجدًا ترنو إليه تلال من القش، تلك القشّة التي قصمت ظهر البعير.”
تصوّر القصة هشاشة المجد حين يتحوّل إلى قشّ، قابل للانهيار بأدنى ضغط.
الغياب هنا: غياب القيمة الحقيقية، وانكشاف زيف القوة.
—
مآرب
“يترقّب أي فرصة لإرسال رسالة لها عبر البريد، أما هي فكانت من هواة جمع الطوابع.”
علاقة يسودها سوء الفهم؛ هو يسعى للتواصل، وهي مشغولة بما يُبعث لا بما يُقال.
الغياب هنا: غياب التفاهم، وانغلاق كل طرف في عالمه الخاص.
—
الحلم
“قيل له: دع عنك الحلم، فمات من ساعتها.”
ربط مباشر بين الحلم والحياة.
الغياب هنا: غياب الأمل، وزوال الحياة بفقدان المعنى.
—
تبدل
“كان يناديني: أخي… ثم قابيل.”
تحوّل في العلاقة من الأخوّة إلى الخيانة، عبر رمز ديني عميق.
الغياب هنا: غياب الثقة، وتبدّل الحب إلى عداوة.
—
اعتناق
“تلك الرصاصة التي أبت أن تغادر جسدًا فيه روحك، أعلنت الولاء.”
الرصاصة هنا ليست مجرد موت، بل إعلان خضوع وقبول بالمصير.
الغياب هنا: غياب الإرادة، واعتناق الموت كتسليم للقدر.
—
غايات
“مقعد وثير في صالة عرض، يجلس عليه الناس لدقائق، ثم يعرض كلّ لغايته.”
المكان يجمع الأجساد، لكن الأرواح تبقى متفرقة.
الغياب هنا: غياب التواصل الحقيقي، رغم الحضور الفيزيائي.
—
تمرد
“السدّ الذي احتجز كل المياه، تمردت عليه قطرة، فتسببت بفيضانه الأخير.”
القطرة الهامشية التي تُسقط النظام بأكمله.
الغياب هنا: غياب السيطرة، حين يتمرد الضعيف فينهار القوي.
—
من خلال هذه النصوص القصيرة، يتجلّى أسلوب طارق عودة المميز في تكثيف اللغة، واعتماده على المجاز والمفارقة دون إفراط زخرفي. قصصه قصيرة في حجمها، لكنها مشبعة بالدلالات، وتستند إلى رموز دينية وتراثية تُغني المعنى وتعمّقه.
في قصة “الحلم”، نرى مفارقة قاتلة تربط بين الحياة وفقدان الأمل.
وفي “تبدل”، التحوّل من “أخي” إلى “قابيل” يختزل خيانة وجودية في عبارة واحدة.
أما في “مجد”، فتُستدعى الأمثال الشعبية لتُجسّد انكسار العظمة بفعل تافه.
كما يتجلى توظيف الرموز التراثية (مثل قابيل، والقشة، والمقعد) ببراعة، تمنح النصوص بعدًا فلسفيًا دون الحاجة إلى إسهاب.
الجُمل القصيرة ذات النبرة الشعرية، مثل: “دع عنك الحلم، فمات من ساعتها”، تُضفي طابعًا تراجيديًا مفعمًا بالدلالة.
تُبرز المجموعة رؤية وجودية حادة، تُعيد طرح أسئلة الإنسان الأولى:
من نكون حين يغيب الآخر؟ وكيف نستمر حين يغيب المعنى؟
هذه نصوص لا تكتفي بسرد الحكاية، بل تفتح جراحها، وتترك القارئ متلبسًا بالسؤال:
هل الغياب فن… أم مصير؟