قراءة في رواية الغداء الأخير للروائي توفيق جاد
الشتات الفلسطينيّ بعد قيام دولة إسرائيل عام 1948، جاءت مخرجاته كثيرة، عميقة الأثر في البنية الاجتماعية و الاقتصادية والسياسيّة للشعب الفلسطينيّ، الأمر الذي انعكست آثاره على المحيط العربي الحاضن، طال الانتظار والملل صار سيّد الموقف، فلا بارقة من أمل في حلّ قريب يعيد المهجرين إلى مدنهم وقراهم، وحق للعودة صار حُلُمًا بعيد المنال.
مواصلة الحياة فرضت خيار الاستقرار المؤقّت، الذي تحوّل إلى دائم لا بديل منه على الأقل في المدى المنظور، وبعد سبعين عاما على مرور هذه المأساة ازداد الوضع صعوبة، واستجدّت معطيات جديدة ساهمت في خلق واقع مفروض.
***
تعتبر رواية (الغداء الأخير) من مدرسة الأدب الواقعي بمساره التراجيدي، إذ سعى الروائي إلى رسم لوحة تفصيليّة للمأساة بعمل أدبيّ يخلد من خلاله ما حدث، واستعادة الحدث التاريخي المؤسس لها في بداية روايته، بطريقة تراجيدية عمومًا عندما استعرض الحزن و الدموع والدماء والقتل والدمار، وتسلسل بها إلى الخاتمة المحزنة بعميق مأساويّتها.
وتتجدّد الدراما التراجيديّة يعد سنوات، لتصل ذروتها في العام 1967، وما حصل من مضاعفات على الصعيد الإقليمي العربي المتاخم لفلسطين، ويأتي الشتات الثاني الأفظع والأوسع بمدى تأثيراته على مختلف الأصعدة.فيقول توفيق جاد:
” أصابني الذهول من ذلك المنظر المرعب، وأنا أقف على تلك الصخور في حارتي الجبلية، اشتعال النيران زاد من لهيب حزيران الحارق”.
وبعد قليل يتابع: “عاد الحلم البغيض يسكنني ويغزوني، يأتيني شابًّا يافعًا قويًّا، أحلام الأمس .. هي حقائق اليوم”، الروائي هو من الجيل الثاني للآباء المهجرين من ديارهم، ما زالت ذكرياته تحفّ. مساربها في أعماق نفسه إلى أن استطاع تحويلها لعمل أدبي معتبر عن مرحلة سوداء انسحبت آثارها المدمرة على حياة أجيال.
***
مطالعتي لرواية (الغداء الأخير)، أعادني لرائعة (د/ وليد سيف – التغريبة الفلسطينيّة) المؤثرة بتوصيفاتها الدقيقة كما رأيناها بصيغتها الدرامية على شاشات الفضائيات.
ونتائج الشتات نسجت أحداثًا فرضتها بقوة سلطانها على المجتمع الفلسطيني، بداية من التفكك الأسري وضياع الكثير من أبنائها، وانطواء قلوب الأمهات على نار حرقت قلوبهن في الحياة، ورافقتهن إلى قبورهن.
السرد الروائي استهدف الجيل الثاني، والمصائر تخطّها الأقدار بقوّتها وعنفوانها، سائرة بالموظف صالح أن يلتقي بالبنت رشيدة، أثناء تقديمها طلب توظيف، وتنسج الرواية بينهما قصة حبٍّ تكللت بزواج ناجح، أثمر عن ثلاثة أبناء من الذكور، وربّ صدفة خير من معاد، حينما اكتشف صالح متأخّرًا أنّ أمّ أولاده لم تكن سوى أخته (فلسطين) التي ضاعت أثناء رحلة العائلة إلى الأردن.
فتتحول حياة صالح ورشيدة والعائلة إلى ضياع كامل. وفشل وانحراف للأولاد، وتعيدنا القصة إلى الزواج الآثم من المحارم، ونتائجه الوخيمة. أخيرا اتخذ ابنهما عايد الكبير قراره بإنهاء معاناة أسرته وأهله جميعا وبشهادات تثبت أنه الجاني.
***
الغداء الأخير عنوان الرواية أخذ دلالته في الصفحات الأخيرة من الرواية، قال فيها: “ذهب عايد إلى أحد المطاعم، طلب منهم احضار غداء لى منزله، كان خروفًا محشيًّا، أدخله إلى المطبخ، أغلق الباب على نفسه لدقائق قليلة”.
ومتابعة السّارد: “حضرت ياسمين، دقت الباب عدّة مرّات .. لكن لم يُجب أحد، لاحظت أن الباب كان مفتوحًا، جقعته ببطءٍ شديد..، توقّفت..، أدارت ظهرها تنوي الرّجوع..، همست: أشمّ رائحة الموت، دخلت وصعقت مما رأت..، الجميع ملقى على الأرض، صرخت بأعلى صوتها، وكأن أفعى ضخمة تلاحقها”.
وتنتهي الرواية بأن (عايد) كان قد اتّخذ قراره إنهاء معاناة الأسرة كلّها، فكانت دعوت للغداء الأخير.
لا بدّ من التوقف أمام الذاكرة الجمعيّة للمجتمعات التي لا تمحي منها الخطأ أو الزلل من الأفراد، لأنها تعتبره خروجًا على قوانينها المعلومة للجميع، وكان قرار الانتحار الجماعي من (عايد)، حيث تتماثل حالتهم مع ظاهرة الانتحار الجماعية التي قام أفراد مجموعة (جيم جونز) في العام 1989م، حينما أقنع (913) فردًا من أتباعه (معبد الشعب) في جنوب أمريكا، بتناول مادّة (السيانيد) السّامة ممزوجة مع عصير العنب، سعيًا لمرضاة الرب.
الغداء أوّلًا، يتبعه العشاء، وكلاهما كان الأخير، فالعشاء الأخير هو الذي تناوله (المسيح – عليه السلام) مع حواريّيه في الليلة التي سبقت موته الفدائي. وبما أنه كان آخر عشاء له مع أتباعه الأمناء، فقد دُعي (العشاء الأخير) منذ وقت طويل.
ختامًا، وعلى مرّ القرون، ضحّى كثيرون بحياتهم من أجل قضايا اعتبروها مهمة، وقد أفادت هذه الميتات أشخاصًا مُعيَّنين فترة من الوقت، ولكن لا يُعادل أيّ من هذه الميتات التي أظهرت التضحية بالذات كموت (المسيح – عليه السلام) مهما كانت جديرة بالثناء.