بقلم : كريم عبدالله – العراق 1/10/2019 .
أنّ القصيدة التقليلية تتطلب صناعة مشهد شعريّ قصير متحرك , وهذا يتطلب إستحضار وتداخل الأزمنة والأمكنة وشحنها بالمزيد من المشاعر المتأججة , يحتاج الى وعيّ متّقد يسبح في خيال خصب منتج ذكيّ يعرف كيف يصيغ المقطع الشعري واين يضع المفردات ويصبغها بضربات رشيقة تبهر وتستفزّ وتنشتل المتلقي من الواقع وتأخذه الى واقع آخر يجد فيه المتعة النفسية ويتلمظ اللذّة الأبداعية . هذا المقطع سيكون موجزا مركّزا مرمّزاً مكثّفا يمتلك من المقدرة ما يحرّك به وعي المتلقي وينفذ في العمق الأنساني , فكلما تحرّرت مخيلة الذات الشاعرة عن قيود الزمن وابتعدت عن السطحية والمباشرة وجنحت الى ما هو غير مألوف ومعتاد , امتلك النسيج الشعري إضاءات وتوهّجات ودلالات تجعله ينفتح على تأويلات متعددة . انَ السياحة بين ومضات الشاعرة الفلسطينية : رحمة عنّاب انّما هي سياحة او نزهة بين جمالية اللغة وصدق المشاعر وجموح الخيال , وهي ايضا ترنيمات إنثوية يدثّرها صراع نفسيّ يرقد على منابع من العواطف والحرمان والجمال النقيّ .
سنختار بعضا من هذه النصوص التقليلية ونحاول قراءتها , ونستشفُ ما تحمله من ذات مشتعلة بالعواطف وصوت شعري إنثوي رقيق يستطيع صناعة المقطع الشعري بصور تتوالد لا ينتابها الترهّل أو الخمول وينفذ عميقا في النفس ويجعل المتلقي يقف عندها منبهراً .
أولاً :
يا لمواقيتكَ .. !!
تُضاجعُ عزلتي
فـ تنتشي الساعاتُ العاقرة ..
تبدأ الشاعرة هنا مستخدمة حرف ( يا ) للنداء للتعجبي ,في محاولة لأثارة الذات الأخرى والطلب في تلبية هذا النداء بسبب معاناتها وما يعتريها وإضطراب النفس وشعورها بالحاجة الى إشباع هذا الفراغ الروح وسدّ منافذ الوحشة , وبعدها تأتي مفردة ( المواقيت ) وهو المنادى المتعجب منه , وهنا سنستشفُ بأنّ هناك مواقيت زمانية واخرى مواقيت مكانية تحاول ان تعيد الذات الاخرى الى هذه المواقيت الزمنكانية وتشحذ ذاكرته بهذا الكمّ الهائل من الذكريات التي تطمح اليها الذات الشاعرة والتي تكتب بوعيّ تام وتحت سلطة العقل , فكأنّها لاعب شطرنج يعرف كيف يحرّك أدواته واين يضعها , اي أن اختيار المفردة اختيار مدروس وليس عشوائياً . ثم يأتي المقطع الآخر / تضاجعُ عزلتي / في محاولة للتورية والتغريب مستخدمة أنسنة الأشياء عن طريق لغة هامسة تمتلك روحاً نقيّة معذّبة تتدفق مشاعرها هادئة تفيض متوهّجة عذوبة وحناناً , فلقد استطاعت الذات الشاعرة أن تؤنسن عزلتها التي أنزلت عليها الهموم والأحزان وجعلت من فراشها مكاناً موحشاً تتكاثر فيه الأشواك , وكأنّ لا شيء ينادمها الاّ هذا القلق الوارف والمخيّم على سريرها البارد , وهذا الحزن الأبكم الذي كان ومازال وسيبقى يرافقها ويطرد النوم من لياليها الطويلة . ثم يأتي المقطع الأخير / فـ تنتشي الساعاتُ العاقرة / وكأنّ مضاجعة العزلة كان نتيجتها هذه النشوة في لحظة الجدب , انّها محاولة البحث عن السكينة والأطمئنان في زمن يفتقد الى النماء والحياة والحبّ والوفاء , وإشباع اللحظات والتخلّص من ثقل الزمن وسطوة المكان . انّ الذات الشاعرة تتحدث عن الآخر والذي قد يكون / الوطن / الرجل / الأمل / الهدف السامي / أو الذات الشاعرة نفسها , لقد حمل هذا النصّ من سمات الأيروسية الشيء الكثير وحاولت الذات الشاعرة أن تقي نفسها بهذه الرمزية المحببة ومارستها بحذر شديد فكان أن تورّدت المفردات فأنهمر كلّ هذا العجب العجيب .
ثانياً :
حيثكَ اذهب
اخلع نعل الخوف
و أبحر باستقامة كسفينة عصية
لا تثنيها مجاهيل العذاب .
بهذا المقطع النصّي المتحرك تبدأ الشاعرة مقطوعتها الثانية / حيكَ اذهب / في محاولة لإثارة مشاعر المتلقي وأن تُلهب الوجدان في لغة يغلب عليها طابع التصوّف والحكمة والصفاء الروحي والعشق الألهي والتعلّق والتماهي مع المحبوب , وهنا أيضا نجد انّ الذات الشاعرة واعية لما تريد قوله وتكتب تحت سلطة العقل , انها تدرك ما تريد لهذا فهي تطرد الخوف من أعماقها وتتخلّى عنه وعن هواجسه وقلقه من خلال هذا المقطع النصّي المتحرّك أيضاً / أخلعُ نعلَ الخوف / من خلال تناص قرآني جميل وحالة من التطهّر الروحي والخلاص من منغّصات هذا الواقع المأزوم . وفي مقطع نصّي متحرك آخر نجد الأرادة الصلبة والأصرار على الوصول الى المعشوق رغم المصاعب وتلاطم أمواج الواقع / و أبحر باستقامة كسفينة عصية / في محاولة الهروب والأرتقاء والأطمئنان . وفي المقطع النصّي الأخير وهو متحرّك ايضاً تحاول الذات الشاعرة أن تدخل مرحلة التطهّر والخلاص والسعي الحثيث للبحث عن السكينة والوصول الى حالة الصفاء والتلذّذ باللقاء / لا تثنيها مجاهيل العذاب / . انّ لغة الشاعرة هنا نجدها مشحونة بالعذوبة والرهافة وعامرة بالتلميح والتقشف والأرتقاء .
ثالثاً :
صوتي ذرّته الريح يرتد صداه على ركح ناي ليل حزين .
اننا هنا أمام شعر ليس عاديا يقتصر على التكثيف اللغوي والعذوبة فقط أنما هو عبارة عن ضربات سريعة متتالية تنفذ عميقا في النفس , فنحن هنا نرى فكرة متجلّية عبر هذا الزخم الشعوري وفي مقطع نصّي خالي من الحشو والزوائد اللفظية , مما جعله متماسك بلا زيادة أو نقصان . ففي هذا المقطع نجد الصورة الحسّيّة للشعرية الشعرية قد تجسّدت على شكل نمط سمعي تجلّى من خلال استخدام / صوتي / الريح / صداه / ناي / فهذه المفردات تنهض بمهمة التعبير عن الأجواء المحتشدة داخل النصّ وتجسّد معالمه وملامحه بحيث تجعل المتلقي يعيش داخل هذه الأجواء ويتفاعل معها , فالشاعر الحقيقي هو الذي يقبض على اللحظة الشعرية ويطوّع اللغة من أجل أن يدغدغ وجدان المتلقي ويثير دهشته , وبهذا نستطيع ان نستمع بخشوع الى الموسيقى الداخلية من خلال صورتها الشعرية ومفرداتها التي نقلت الينا هذا التأثير والإيحاء وفتحت لنا أبواباً للتأمل والتأويل , وفي نفس الوقت نقلت الينا إنفعالات الذات الشاعرة في لحظة معينة وخاطبت من خلال ذلك الأنسان الموجود في داخلنا .
رابعاً :
أكتبكَ نصاً محموم الحنين ..
إنّ ايّ نصّ شعري لابدّ أن ينتج عن إنفعال وتدفق شعوري عنيف كي يستطيع إثارة المتلقي , ويجب أن يكون هذا النصّ عبارة عمّا يشبه الحلم , وتستطيع الذات الشاعرة أن تستنبط وتستوعب هذه المشاعر والعواطف وتعيد صياغتها نتيجة التأمل العميق في الذات وتقوم على ربط كلّ هذا بنصّ يعبّر بوضوح عن الحلة النفسيّة الداخلية للذات الشاعرة , وهنا نجد انّ هذه الذات الشاعرة قد قامت بتحويل هذه المشاعر المحمومة الى تدفق لغوي يحمل من الموسيقى وصورة فنيّة زاهيّة ساعدت في إبراز المعنى الذي سعت اليه , وجسّدت لنا في نفس الوقت المعاني النفسيّة والعاطفية والتجسيديّة معبّرة عن تجربة واقعية أو ذهنيّة .
خاسماً :
الصباحات الناعمة لا توقظها الا طراوة كركرات اصواتنا السخيّة تغسل ستائر حزن الانتظار الباسل تعاقرنا حجّة افراح يُثاقلها أملا مخمليّ العفاف….
هنا تتجلّى السرديّة التعبيريّة بأوضح صورها من خلال هذا البناء الجمليّ المتواصل والرصين , حيت تعظيم طاقات اللغة والأنزياحات اللغوية العظيمة والخيال الدكتاتوري الجامح والزخم الشعوري العنيف , فالسرد التعبيري هنا لا يعني السرد الحكائي القصصي انما هو السرد الممانع للسرد متجلّياً من خلال الانزياح في اللغة عن واقعيتها وإلباسها لباس الخيال واللاواقعية , والرمزية العميقة واللغة العذبة المتدفقة في نصذ نثري ( الكتابة ألأفقية بطريقة الفقرات المتواصلة بدون فراغات او تشطير أو ترك نقاط متعددة بين الفقرات النصّية أي ان الكتابة تكون بطريقة الكتلة الواحدة المتوهّجة ) , فهنا نجد الذات الشاعرة قد حلّقت عاليا وإبتعدت عن الجفاف في اللغة وأخذت معها المتلقي الى هذه السماوات البعيدة يسبح في عالم رطب نديّ من الخيال , وفي نفس الوقت حافظت على مستوى الإيحاء الرمزي وخلقت ألفة ما بين النصّ والمتلقي , وكذلك حققت النثروشعرية أي الشعر الكامل في النثر الكامل وهذا ما يجعل النصّ السردي التعبيري يختلف اختلافا كبيرا عن قصيدة النثر ( والتي يجب أن تسمّى النصّ الحرّ ) والتي يطغى فيها الشعر على السرد . انّ الكتابة بالسرد التعبيري يحقق التجلّي الواضح للشعر في النثر وكذلك يحقق الغايات الكتابية والجمالية مما يجعله الأقرب الى المتلقي .
سادساً :
ضميركَ الغائب
لا يشبه أناقة لغتي.
هنا نجد الحضور اليقيني للذات الشاعرة وكأنّها تقول ( أنا أفكر فأنا موجود ) , فهي تدرك يقينيا وجودها الفكري في محاولة لأثبات الذات الواعية وبأنّ وجودها حقيقيّ لا يدانيه أي ّ شكّ , فهي تحاول إضفاء صفة النقص والقصور ( الغائب ) على الذات الأخرى وحضورها المتمثّل من خلال الأفكار والسلوكيات وطريقة تفكيرها التي تعبّر عن شخصيتها ( أناقة لغتي ) , فهي من المراحل المتقدمة التي يعيشها ألأنسان حينما يمتلك لغة أنيقة ( الشِعر ) يستطيع من خلالها ترجمة مشاعره وأحاسيسه وبثّها للمتلقي ليستمتع بها ويعيش أجواءها ويتفاعل معها