جمالُ صوت المرأة في السرديّة التعبيريّة
ثانياً : لغة المرآيا والنصّ الفسيفسائي
1 – عصفور سومري…يعشعش في رحم احلامي .. بقلم : رحمة عناب – فلسطين
يقول ( هيجل ) : الشعر هو الفن المطلق للعقل , الذي أصبح حرّاً في طبيعته , والذي لا يكون مقيّداً في أن يجد تحققه في المادة الحسيّة الخارجية , ولكنه يتغرّب بشكل تام في المكان الباطني والزمان الباطني للافكار والمشاعر .
مما لاشكّ فيه انّ الموهبة قد تموت وتنتهي بالتدريج اذا لم يستطيع الشاعر تطويرها واستثمارها أقصى إستثمار عن طريق الاطلاع على تجارب الاخرين والاستفادة منها والاتكاء على المخزون المعرفي لديه , وتسخير الخيال الخصب في انتاج وكتابة كتابات متميّزة ومتفرّدة تحمل بصمته الخاصة التي عن طريقها يُعرف ويُستدلّ بها على إبداعه , وقد تموت ايضا اذا لم تجد التربة الصالحة والمناخ الملائم لأنضاجها , وقد تنتهي حينما لمْ تجد مَنْ يحنو على بذورها التي تبذرها ويعتني بها ويُسقيها من الينابيع الصافية والنقيّة , فلابدّ من التواصل والتلاقح مع تجارب الاخرين الناجحة والعمل على صقل هذه الموهبة وتطويرها والاهتمام بها وتشجيعها والوقوف الى جانبها قبل أن تُجهض . نحن سعداء جدا في مؤسسة تجديد الادبية ان نستنشق الان ملامح إبداع جميل وحضور مشرق من خلال دعمنا المستمر للمواهب الصادقة والناجحة في هذا الموقع , فلقد اصبح لدينا الان مجموعة رائعة جدا من الشعراء والشواعر الذين يجيدون كاتبة القصيدة السرديّة التعبيريّة , ونحن لم ندّخر اي جهد في مساعدة الجميع عن طريق الدراسات النقديّة والنشر والتوثيق المستمر في المواقع الالكترونية الرصينة وفي بعض الصحف الورقيّة , وابداء الملاحظات من أجل تطوير وإنضاج هذه الاقلام الواعدة , نحن على ثقّة سيأتي اليوم الذي يشار الى كتابات هؤلاء والاشادة بها والى القيمة الفنية فيها ومستوى الابداع والتميّز وما تحمله من رساليّة فنيّة وجماهيريّة .
فلم تعد قوالب الشعر الجاهزة ترضي غرور شعراء السرد التعبيري لذا حاولوا ونجحوا في الانفلات من هذه القوالب ومن هيمنتها ولو بشكل محدود ( في الوقت الحاضر ) , وتجلّ هذا من خلال طرق كتابة النصّ والموضوعات التي يتطرق اليها , وترسخت فكرة التجديد لديهم وخطّوا لهم طريقا مغايرا في كتاباتهم , وصاروا يواصلون الكتابة وياخذون منحا اخر لهم بعيدا عما هو سائد الان في كتابة قصيدة النثر , صارت القصيدة أكثر حرّية وانفتاحا على التجارب العالمية , لقد منحت السرديّة التعبيريّة لكتّابها الحرية والواسعة والفضاء النقيّ الشاسع والأنطلاق نحو المستقبل خاصة حينما يكون التعبير أكثر شبابا وصدقا عن المشاعر الحقيقية المنبعثة من القلب الصافي كالينبوع العذب , فلقد أحسّ الشاعر بمهمتة الصعبة في الكتابة بهذا الشكل الجديد والمختلف والذي نؤمن به وبقوّة , فنحن نؤمن وعلى يقين بانّ القصيدة السردية التعبيريّة هي قصيدة المستقبل لقدرتها على الصمود والتطوّر المستمر نتيجة التجربة الطويلة والتراكم الابداعي , بروعة ما تقدّمه وتطرحه على الساحة الشعرية , نعم أحسّ الشاعر بالانتماء والاخلاص لهذا اللون الادبي الجديد والذي نطمح في قادم الايام ان يكون جنسا أدبيا متميّزا , لهذا استطاع الشاعر ان يطوّع المفردة رغم قسوتها وعنادها وإعادة تشكيلها وتفجير كل طاقاتها المخبوءة , وأن يفجّر من صلابتها الينابيع والانهار وإستنطاقها نتيجة ما يمتلكه من خيال جامح ابداعي وعاطفة صادقة جيّاشة وإلهام نقيّ وقاموس مفرداتي يعجّ باللغة الجديدة .
سنتحدث اليوم عن صوت المرأة الشاعرة في السرديّة التعبيرية ونختار بعض القصائد كي نشير الى مستوى الابداع وكميّة الشعرية فيها , ونستنشق عبير هذه القصائد النموذجية .
انّ حضور الصوت النسائي في السرديّة التعبيرية له تاريخه المشرق وحضوره البهيّ , فمنذ تاسيس موقع ( السرد التعبيريّ ) كان حضور المرأة الشاعرة متميّزا ينثر عطر الجمال ويضيف ألقاً وعذوبة في هذا الموقع الفريد والمتميّز, وقدّمت قصائد رائعة جدا تناولها الدكتور انور غني الموسوي بالقراءات الكثيرة والاشادة بها دائما , وتوالت فيما بعد الاضاءات والقراءة النقدية لهذه التجارب المتميّزة من قبل بعض النقاد ومن بعض شعراءها . فاصبحت هذه القصائد نوعية مليئة بالابداع الحقيقي وبروعة ما تطرحه من أفكار ورؤى ومفعمة بالحياة وروح السرديّة التعبيريّة وخطّتْ لها طريقاً تهتدي به الاخريات ممن عشقن السرد التعبيري وحافظن على هيبته وشكله وروحه والدفاع عنه . لقد أضافت الشاعرة الى جمالية السرديّة التعبيريّة جمالا آخر وزخما حضورياً وبعثت روح التنافس وحرّكت عجلة الابداع فكانت بحق آيقونة رائعة . القصائد التي كتبتها المرأة في السرد التعبيري كانت معبّرة بصدق عن اللواعج والالام والفرح والشقاء والحرمان والسعادة , بثّت فيها شجونها وخلجات ما انتاب فؤادها , ولقد أزاحت عن كاهلها ثقل الهموم وسطوة اللوعة , ولقد جسّدت في قصائدها آلامها ومعاناتها في بناء جملي متدفق , منحت المتلقي دهشة عظيمة وروّت ذائقته وحرّكت الاحساس لديه . كانت وستظلّ زاخرة بالمشاعر والاحاسيس العذبة ومتوهّجة بفيض من الحنان , نتيجة الى طبيعتها الفسيولوجية والسايكولوجية كونها شديدة التأثر وتمتاز برقّة روحها فانعكس هذا على مفرداتها وعلى الجو العام لقصائدها , فصارت المفردة تمتلك شخصية ورقّة وعذوبة وممتلئة بالخيال وبجرسها الهامس وتأثيرها في نفس المتلقي , فكانت هذه القصائد تمتاز بالصفاء والعمق والرمزية المحببة والخيال الخصب والمجازات ومبتعدة جدا عن المباشرة والسطحية , كانت عبارة عن تشظّي وتفجير واستنهاض ما في اللغة من سطوة , كل هذا استخدمته بطريقة تدعو للوقوف عندها والتأمل واعادة قراءتها لأكثر من مرّة لتعبر عن واقعها المأزوم وعن همومها وهموم النساء في كل مكان . فرغم مشاغلها الحياتية والتزاماتها الكثيرة استطاعت الشاعرة ان تخطّ لها طريقا واضحا وتتحدّى كل الصعاب وترسم لها هويّة واضحة الملامح , فلقد بذرت بذورها في ارض السرد التعبيري ونضجت هذه البذور حتى اصبحت شجرة مثمرة . لقد وجدنا في النصوص المنتخبة طغيان النَفَس الانثوي واحتلاله مساحة واسعة فيها معطّرة برائحتها العبقة واللمسات الحانية والصدق والنشوة , فكانت ممتعة جدا وجعلت من المتلقي يقف عندها طويلا منتشيا , وحققت المصالحة ما بين الشاعرة والمتلقي وهذا ما تهدف اليه الكتابة الابداعية .
لغة المرآيا والنصّ الفسيفسائي
لقد امتازت اغلب كتابات مجموعة السردية التعبيرية بسحر اللغة وأناقة الإيحاء , وفي نصّ الشاعرة : رحمة عناب – عصفور سومري…يعشعش في رحم احلامي , يتجلّى هذا السحر اللغوي من خلال اللغة المركّزة والمسبوكة بعناية فائقة , وكأنّ الشاعرة تعمل في مختبر لغويّ كما يعمل الكيميائي في مختبره , فهي تختار المفردة المؤثرة وتغمسها في بحر من النور وتزرعها بعناية في مكانها المناسب داخل النصّ , تتعامل مع اللغة كما يتعامل النحّات مع قطع الأحجار الصمّاء , تحنو عليها وتعيد تشكيلها من جديد بطريقة أخرى لتبعث فيها الحياة وتجعلها تتفجّر كلّ طاقاتها المخبوءة , وتجعل المفردات تتآصر فيما بينها دون ترهّل لتصنع منها نسيجاً مترابطا بدون أي نفايات لغوية او زوائد تسيء الى نسيجها الشعري الذي يكون زاخراً بالإيحاء , فنجد الإيحاءات تنبعث من خلال طاقات اللغة الحسيّة , أي ان هناك إنبعاثات وإشعاعات تنطلق من خلال الإيقاع والنغم ومن المعاني والدلالات التي توحي بها هذه اللغة , فيزيد هذا الإيحاء من قوة المفردة ونضارتها , فنحسّ بشيء يشبه الرعشة ينبع من هذه اللغة ويطغى عليها . هذا ما وفّرته القصيدة السردية التعبيرية لكتّابها , الفضاء الشاسع والحرية في استخدام اللغة وتفجير طاقاتها والإيحاء الشديد وعملية نقل المشاعر العميقة والزخم العاطفي والسرد الممانع للسرد , فنحن حينما نقرأ نصّا سردياً ينتابنا شعور باننا نقرأ حكاية , لكن فجأة نجد اللغة تنحرف انحرافا عظيما وغريبا من معناها الواقعي عن طريق الإنزياحات وتشظّي اللغة ووقعنتها – اللغة – عن طريق الخيال الخصب كما في هذا النصّ النموذجي , بينما الكتابة بالتعبيرية تعني لنا بأنّ ينطلق كل شيء في النصّ من داخل الشاعرة وخلجاتها البعيدة وتصوراتها والتحدّث بعمق وفردية طاغية . وهذا كلّه يمثّل روح السرد التعبيري وجماليتها الأبداعية .
انّ اللغة التي كُتب بها هذا النصّ هي لغة المرآيا والنصّ الفسيفسائي وهي احدى مظاهر السردية التعبيرية , انّ المتعارف عليه في اللغة لكل نقطة معنوية تعبيرا لفظيا واحدا الذي يعبّر عنها , لكن ماتفعله لغة المرآيا هو الانطلاق من معنى واحد وبوحدات لفظية متعددة , وبمعنى آخر يعني وحدة المعنى وتعدد الالفاظ , فيكون لدينا تناصات متكررة , أي تناص بين وحدات النصّ نفسه وليس تناص مع نصوص أخرى . ان تناول الفكرة والاشتغال عليها عن طريق تراكيب لفظيّة مختلفة يمكّننا من النظر الى النصّ من زوايا مختلفة , وهذا يعني بأنّ هذا لنصّ متعدد الزوايا , وفيما نظرنا الى هذه التركيب اللغوية فيما بينها سنراها تراكيب فسيفسائية , أي انّ كل تركيب فيه يكون بشكل مرآة , فيمكننا حينها انّ نصف هذه اللغة بلغة المرآيا بينما نستطيع ان نصف النصّ بالفسيفسائي .
انّ لغة المرايا والنصّ الفسيفسائي تحقق لنا تجلّي كبير للفكرة والمعنى وترسّخ هذا المعنى لدى المتلقي هذا من جهة , ومن جهة أخرى انّ تعدد صور الفكرة داخل النسيج الشعري يحقق لنا الحركة فيه .
انّ نصّ / عصفور سومري…يعشعش في رحم احلامي / يتكون من ثلاث فقرات نصّية كل فقرة كُتبت ببناء جملي متواصل ولغة مكثّفة وببوح توصيلي شديد مصحوبا بهذا الكمّ من العاطفة .
المقطع الأول : / شفتاك حبتا رطب جنيتان كلما اهز جذع الامنيات تساقط في حضن احلامي جنينا سومرياً ينبجس معجزة تتوحد في رحم التّوله يليّنها صوتك حنانا يتدفق لؤلؤا يورق طيبا بنخيلك الباسق مذهولا أستجير دفء فؤادك اتناثر عصافيرا تغازل سعف صدرك تعشش أرشق الخجل بمجامير الفرح ابعثر اشلاءه افتح بكارته لأحلق على اجنحة أثيرك المتوقّد فتختمر نجومي هذيانا اذ ما عانقت تائقة بريق عينيك ../ . ويمتاز بوحدات تركيبية فقراتية في تعبير واحد , حاولت الشاعرة أن ترسم لنا ملامح الذات الأخرى بدقّة وبشكل تعبيري غير معهود وبشخوص نصّية ملوّنة ومتعددة تشترك جميعها في مهمة واحدة وهي الوصف ورسم ملامح هذه الذات الأخرى ../ شفتاك حبتا رطب / جذع الامنيات / حضن احلامي / جنينا سومرياً /معجزة / رحم التّوله / صوتك / لؤلؤا / طيبا / بنخيلك الباسق /فؤادك / عصافيرا / سعف صدرك / الخجل / الفرح / بكارته / اجنحة أثيرك / نجومي / بريق عينيك / . فنجد هنا كلّ هذه الشخوص النصّية تتحرّك داخل هذه الفقرة الواحدة , مما تبعث فيها هذا الزخم الشعوري والحركي والتجلّي . أما الفقرة الثانية ../ يااااا لمدااااارتك!!!!تهيم معها نواقيسي تصافح انهيال طراوة عطرك في فضاءاتي هاطلةً وشوشاتك تملأ مسامعي فيا حبذا لو تتكوم سحاباتك شبقا تظلل شموسي . / . فمهمتها كانت التعجب والأمل والطلب والأنتظار ../ يااااا لمدااااارتك!!!! ../ تهيم معها نواقيسي تصافح انهيال طراوة عطرك في فضاءاتي هاطلةً وشوشاتك تملأ مسامعي ../ فيا حبذا لو تتكوم سحاباتك شبقا تظلل شموسي ./ . بينما الفقرة الثالثة ../ كم تابعت شهقاتك تعزف انهاري اغنية على كل السواقي زاهيةً تغسل أوهام العزلة بسلسبيل اللهفة فأتهادى عذابا منعّما على سدرة لا تنتهي فهلّا أدخلتني فردوسك حافية النعليْن؟!! ../ . فمهمتها كانت اللقاء والمتابعة عن طريق الحلم والأستمتاع به حدّ التولّه والتماهي مع الذات الأخرى والرجاء بتحقيق هذا الحلم الجميل ../ كم تابعت شهقاتك تعزف انهاري اغنية على كل السواقي .. / زاهيةً تغسل أوهام العزلة بسلسبيل اللهفة .. / عذابا منعّما على سدرة لا تنتهي .. /فهلّا أدخلتني فردوسك حافية النعليْن؟!! ../ .
نرى هنا جميع هذه الفقرات والشخوص النصيّة المتعددة تنطلق من فكرة واحدة وهي / العصفور السومريّ / وتحاول ان تصور لنا كيف استطاع ان يعشش في رحم أحلام الشاعرة . وهنا لابدّ من الأشادة بإستخدام الأسطورة واستحضارها من عمق التاريخ البعيد وإضفاء هذا السحر الذي بعث توهّجا اضافيا وحركية اخرى وبُعداً ورؤية متجددة للنصّ , هنا جميع ما في النصّ يتجه إتجاها واحدا نحو هذا العصفور في محاولة لتجلّي الفكرة وترسيخها . يحق لنا أن نفتخر جميعا بمشروع شعري سيكون له مكانة مرموقة في تاريخ السردية التعبيرية , استطاعت الشاعرة : رحمة عناب ان تصنع لنا نصّا زاخرا بالجمال استطاع هزّ مشاعرنا العميقة وجعلتنا نعيش داخل أجواء نسيجها الشعري الرقيق .. فشكراً لصنّاع الجمال في زمن القبح .
النصّ :
عصفور سومري…يعشعش في رحم احلامي .. بقلم : رحمة عناب – فلسطين
شفتاك حبتا رطب جنيتان كلما اهز جذع الامنيات تساقط في حضن احلامي جنينا سومرياً ينبجس معجزة تتوحد في رحم التّوله يليّنها صوتك حنانا يتدفق لؤلؤا يورق طيبا بنخيلك الباسق مذهولا أستجير دفء فؤادك اتناثر عصافيرا تغازل سعف صدرك تعشش أرشق الخجل بمجامير الفرح ابعثر اشلاءه افتح بكارته لأحلق على اجنحة أثيرك المتوقّد فتختمر نجومي هذيانا اذ ما عانقت تائقة بريق عينيك.يااااا لمدااااارتك!!!!تهيم معها نواقيسي تصافح انهيال طراوة عطرك في فضاءاتي هاطلةً وشوشاتك تملأ مسامعي فيا حبذا لو تتكوم سحاباتك شبقا تظلل شموسي.كم تابعت شهقاتك تعزف انهاري اغنية على كل السواقي زاهيةً تغسل أوهام العزلة بسلسبيل اللهفة فأتهادى عذابا منعّما على سدرة لا تنتهي فهلّا أدخلتني فردوسك حافية النعليْن؟!!