بقلم:كمال محمود علي اليماني(اليمن)
بين يدي اليوم ديوان شعري للشاعر علي صالح باعوضة ، وهو من إصدار اتحاد أدباء وكتاب الجنوب ، للعام 2023 ، ويقع قي 118 صفحة ذات المقاس المتوسط . ضم الديوان بين جنباته 30 قصيدة ، أما عنوانه فهو (قافيتان وأكثر ) ، وهو عنوان القصيدة ماقبل الأخيرة من الديوان ، والتي يعبّر فيها عن دنو انعتاقه ليشكل قصيدة كاملة وإن كانت حزينة ، ولقد ضم الديوان مزاجاً رائعاً من قصائد عمودية وأخرى تفعيلية ، وإن بدا لي أن قصائد التفعيلية أقوى وأعمق من حيث لغتها وصورها ، ومن حيث رؤى الشاعر فيها ، وإن كان هذا لايعني البتة أن الشاعر يعاني ضعفا في القصيدة العمودية على الإطلاق.
وبالرجوع إلى الحقل الدلالي لعناوين القصائد نجد أ، 15 قصيدة تحمل دلالاتٍ سلبية مثل: الولوج في ثقب ذكرى ، عش أحلامنا يسقط الآن ، سفر للنسيان ، الأرق الأزلي ، ياليتني حجر ، ظمأ وشيء من الأمل المر.
ونجد على الجانب الآخر عناوين حملت دلالاتٍ إيجابية كما هو في 7 قصائد ، منها: لامرأة في عيون الندى ، أشتهي أن أطير ، كانت الأشواق تركض ، ولاتبتئس ،
وبقيت العناوين الأخرى محايدة .
والديوان حافل بالظواهر الأسلوبية التي تمنح القصائد شاعريتها ، فهناك الانزياحات الدلالية والتركيبية ، وهناك التكرار وغيرها.
ولو أننا عرجنا على الانزياحات الدلالية (استعارة ، كناية ، مجاز ، جناس وغيرها ) لوجدنا منها الكثير، مثل قوله :
* وتقطّر المعنى عذاباً عارماً
* قمرٌ ضجِر ، ونجومٌ حزينة
* ولو حفر الدمع أزمنةً
*ويجف ماء الأغنيات
ومن الانزياحات التركيبية ( تقديم ، تأخير ، حذف …):
* وفي القلبِ يرسمُ ناياً
* ممسوسة بالنار كل قصائدي
* سطعت بقلبيّ نجمةٌ
* عاصفةٌ تحاول أن تصد تجبّر الليل
ونجد الكثير الكثير من الانزياحات المركبة( دلالية / تركيبية ) ، منها:
* وتئن من خلفي بلادٌ قلبها مدمى
* وتغسل من جسد الوقت ماتبقى من الحزن
* سأطفىء في دمي نار الحنين الآن
ويعمد شاعرنا علي صالح باعوضة إلى التوزاي المتقابل ينثره هنا وهناك في ثنايا قصائده ، فيقول مثلا:
* غيمة يابسة
نخلة بائسة
( ومع التوازي هناك جناس لفظي بين يابسة وبائسة)
* حكايا كثيرة
أغانٍ كسيرة
أمانٍ غزيرة
( ومع التوازي هناك جناس لفظي بين كثيرة وكسيرة وغزيرة)
* وفي البال ألف سؤال
وفي البال ألف اختناق
* من خرابٍ
من سرابٍ
من شتات
( ومع التوازي هناك أيضا جناس لفظي بين خراب ، سراب)
أما ظاهرة التكرار فهي منتشرة في ثنايا القصائد بشكل لافت للنظر، وهو يؤكد من خلال هذا التكرار مواقفه في كثير من الحالات ، أو يؤكد مشاعره وأحاسيسه ، كما أنه يصنع من التكرار نغمات إيقاعية تمنح القصائد جمالا أخاذاً في كثير من الحالات، ولقد جاء التكرار عنده في صوره المتعددة ، فنجد تكراراً للحرف وللفعل ، ولشبة الجملة والجملة ، ومن هذه التكرارت قوله في كرار الجملة :
تشرب الآن من نهر أحزانها
بيد ترتجف
تشرب الآن
حد ارتواء السف
أو:
فمتى الهطولُ
متى الهطول.
وفي قصيدة ساعة أخرى كرر جملة ( ساعة أخرى أريد ) خمس مرات.
أما تكرار الكلمة ، فمنه قوله:
رشفةً رشفةً، قليلاً قليلاً، طعنةً طعنةً، طويلاً طويلاً .. وغيرها الكثير.
وفي قصيدة ( ماغير وجهك ) كرر في الأبيات الستة الأخيرة حرف القاف ست مرات ، وهو حرف احتكاكي وانفجاري يعبر من خلال تكراره عن حالة الرفض التي تكتنف الشاعر.
وفي قصيدة ( سفر للنسيان) ، وفي ستة أبيات فقط منها كرر حرف الكاف 10 مرات ، وحرف الميم 12 مرة ، وحرف اللام 15 مرة وحرف النون 14 مرة ، وهذه الحروف/ الأصوات جمعت بين دلالات الشدة واللين ، اقتطع نها بيتين يشيان بما ذهبت إليه:
فنسجتُ أعذاراً لقلبي ربما
كرما يسامحني على إصراري
كنسيج بيت العنكبوت تمزقت
بعد انتظار موجعٍ أعذاري
والعجيب أن قصائد الديوان كلها لم تحظ بالتناصات على الإطلاق ،ولعل الشاعر قد أراد أن يرسل إلى القارىء رسالة – عبر تجاهله للتناص- مفادها اعتداده بنفسه واعتزازه بها.
ولنعش وقتاً ممتعاً مع أضاميم من صور جميلة وأخاذة حوتها قصائد الديوان، وكانت بحق لوحات راقية تناثرث في ثنايا القصائد ، منها:
ياكل مافي الوقتِ من وقتٍ ويا
أشهى الأمانِ المحضِ للأبناءِ
كوني ولو- ليلاً قصيراً – صدفةً
أماً ننامُ بحضنها بهناءِ
أو قوله:
وشيئاً فشيئاً
نفكُّ القيودَ
وياليلُ ثمة فجرٌ سنمضي إليه
ونرجوَ ياليلُ أن لايكون كعادته
لحظةً من سراب
أو :
كنتُ أركضُ
كانت الأشواقُ تركضُ
كانت الساعاتُ تركضُ
كانت الكلمات تركضُ
بيد أنّـا .. بعد هذا العمر
آهٍ .. لم نصلْ
عشت وقتاً جميلاً وممتعاً وأنا أتنقل بن قصائد الديوان ، فكأنني طير أتقفز فوق أفنان مثقلة بالجمال ، وأشهد أن الشاعر علي صالح باعوضة من أجود الشعراء الشباب الذين قرأت لهم ، وأني أنتظر – لو مدّ الله عمرينا- أن أراه في موقع سامقٍ في سماء الشعر اليمني والعربي.