شامة في جبين الأدب

كتبت : رانيا الحسني

(رضوى عاشور) اسمٌ روائيٌّ لا يستطيع قارئ الأدب الحقيقيّ تجاوزه، سواء كان هذا القارئ يميل إلى ماتكتبه رضوى ذوقًا أم لا يميل، فالإنصاف يحتم عليه الإقرار بأن رضوى علامة فارقة في دنيا الأدب العربي، فارقة بمميزات شخصيتها كروائية، وفارقة بإتقان عالٍ لفنيات كتابة الرواية، وفارقة في قول كلمتها في الحياة بشكل صادق مع كل عمل روائي أصدرته سواء اختلفت أو اتفقت مع تلك الكلمة…

ماهو الأدب إن لم يكن كلمة صادقة ترن في ذهن القارئ؟ إن لم يكن بصمة أسلوبية ساطعة لتميز النص وكاتبه، إن لم يكن إضافة إلى معرفة، إن لم يعرض زاوية جديدة للمشهد الحياتيّ؟!

يقال أن هناك أدبًا يسمى (أدب المرأة) لا أدري هل المقصود تحديدا ماتكتبه المرأة أو مايناقش قضاياها، فإن كانت الأولى فسنكون منطقيين حين نسمي مايكتبه الرجل أيضا (أدب الرجل) وإن كانت الثانية فالتسمية ستتعارض مع بعض قضايا المرأة المتشاركة فيها مع الرجل كإنسان، وإن كانت بعيدة عنها، فهناك قضايا خاصة بالرجل تحتاج أن يخصص لها أدبًا!

الأدب هو الإنسان، هو كل مايتعلق به وبعالمه الجوّاني والبرّاني، هو رسالة التاريخ والحاضر والمستقبل بلغة خيال الكاتب إلى القارئ، وتمثل رضوى نموذجًا لإثبات إنسانية الأدب ولا عنصريته، فالقارئ لرواياتها لن يجدها تصيغ المرأة كضحية، أو كرقم هامشي كما هي في الغالب في الأدب والسينما والتلفزيون، ليست كومبارس عارض في حياة بطل، وليست حكاية مأساوية وضحية مطلقة بصور متعددة للمجتمع والرجل، والمرأة!

المرأة في روايات رضوى هي سليمة في غرناطة، المرأة النابغة في مكانها وزمانها، القارئة العنيدة التي تصرّ على فعل القراءة المحرم رغم حرق مكتبة جدها الضخمة أمام عينيها طفلة، والتي تسير شامخة نحو الموت حرقًا بتهمة السحر، والحمل من الشيطان، حين استغلت معرفتها في تطبيب الناس، وحين أخفت تردد زوجها عليها وهو الثائر المطلوب!

هي رقيَّة الطفلة التي شهدت مذبحة قريتها الطنطورية، والشابة التي ذاقت مُر المخيمات، والمرأة التي عاصرت الشتات، رقيَّة الإنسانة البسيطة التي تتحسس كل الأحداث بقلبها، التي تُنهك بتداخلها في عقلها، والتي تخزنها جميعًا في ذاكرتها لتكون شاهدًا حيًا يقرأها جميعًا بحياد المجرب الذي لا يدَ له في صنعها!

هي ندى الطفلة المصرية من أم فرنسية، التي لم تستطع تقبُّل فكرة نزع والدها عنها لمدة خمس سنوات خلف قضبان المعتقل في نهاية الخمسينات، والشابة الثائرة على واقع السبعينات لينتهي بها المطاف أيضا في المعتقل، والمرأة التي تكرس باقي عمرها في تربية أخويها وتعاصر أحداث التسعينات وبداية الألفية بكل مافيها من تقلبات وصراعات…

هي المرأة الإنسان بكامل تناقضاته من الخير والشر، من الفرح والحزن، من العقل والعاطفة…

لأسلوب رضوى في رسم الشخصيات في رواياتها طابع خاص، يجعل القارئ دون أن يشعر يتقمصها بدلًا من التعلق بها أو تصديقها، يتقمصها مهما كانت الشخصية رجلًا أو امرأة، لأن رضوى ترسم الشخصيات وتدقق في تفاصيلها الإنسانية، في نقل القارئ إلى المكان والزمان ليعيشهما، ليشعر ويفكر كما لو أنه جزء منهما، تفعل كل ذلك بلغة قريبة لكل مستويات القراء فلا تعقيد ولا سطحية، كما يميز رواياتها الخلط بمقادير دقيقة بين الشخصيات والأحداث الواقعية، والشخصيات والأحداث الخيالية، فالقارئ يمكنه من خلال تتبع السرد أن يفند تلك الشخصيات، فيميز بينها، ليضفي ذلك شيء من التجسيد للشخصيات الخيالية في ذهنه وذاكرته!
فكثير من القراء لم يستطيعوا بعد القراءة التخلص من الشخصيات التي تنقش في وجدانهم صورها، وتترك في ذاكرتهم أثرها كأنها حقيقة!

لا أدري لماذا عندما أقرأ لرضوى أشعر بأن كفًا تعتصر قلبي حد الألم؟! سقوط الأندلس وكل ماتبعه من هزائم نفسية وفعلية، احتلال فلسطين والمذابح والتهجير والمخيمات والشتات، لبنان و اغتيال كنفاني وناجي العلي، حساسية الأحداث عقب تحرير مصر، تحرير جنوب لبنان، وضرب العراق واجتياحها…وغيرها من الأحداث الواقعية التي ضربت الأمة العربية والإسلامية، والتي قد تقرأها في عشرات الكتب كمعلومات تاريخية وسياسية؛ لكنك لن تقرأها كأنك تعيشها إلا حين تقرأ لرضوى عاشور!

لا تُجمِّل رضوى الجرح؛ بل تكشف عن أسباب الإصابة به، تكتب أعراضه، تترجم الألم وتشير إليه، فيكون أول ألمٍ له لغة، و أول ألمٍ مُشار إليه، وهنا تكمن براعتها!

ومع أنها تكتب أحداثًا وأسماء واقعية، و قد تبدو في بعض المواضع بأنها معلومات تقريرية، إلا أنها تصبغها بأسلوبها الساحر، باللعب على أوتار اللغة والمعنى، بالأحاديث الجوانية للشخصيات، والتي لا تخلو من العمق والفلسفة ولحظات التأمل العاطفية والذهنية…

حين تبحث في مسيرة رضوى الحافلة بالإنتاج النقدي والأدبي، ستتعجب أنها لم تحصل سوى على بعض الجوائز على هوامش معارض الكتاب في القاهرة!
وباقي التكريمات كانت متوزعة مابين اليونان وإيطاليا وعددها لن يتجاوز أصابع اليد الواحدة، و تقريبًا جميعها قبل روايتها الشهيرة (الطنطورية)!

تراود ذهني كثيرًا بعض الأسئلة حول ذلك:
لماذا لا ترى اسم رضوى يُحتفى به مصريًا بشكل خاص، وعربيا بشكل عام؟
وأعني هنا من قبل الجهات الرسمية؛ لأن لكتاباتها قاعدة كبيرة نقديًا وجماهيريًا محتفى بها على الدوام…

لماذا ولها العشرات من الإصدارات في الرواية، والقصة، والنقد والترجمة؟!

لو لم تكتب رضوى غير (ثلاثية غرناطة)، أو (الطنطورية) لكفت للاحتفاء بها مدى حياة الأدب والقراءة والكتب!

ربما لأن رضوى كانت تكتب على المكشوف كما يقال، أو تكتب بوضوح شهادتها هي على المرحلة أو الفترة الزمنية التي تكتب عنها، وربما لأنها دائما تكون في ضفة المهزوم، أو المنهار، أو المظلوم، وتطرح ماكتبت في زمن المنتصر أو القائم، أو صاحب السلطة! وهذه دائرة لا تنتهي، فرضوى كتبت الكثير من الهزائم والظلم، و الشهادات المختلفة الاتجاهات وبرؤى متعددة، وبما أن مجريات الأمور في البلاد العربية الواسعة تشبه لعبة الشطرنج، تتقدم قطعة وتتأخر أخرى، فلا بد من وجود منتصر يحجب الرؤية عمّا سلط عليه الضوء في عهده…

كل هذه أسباب مقترحة، وقد تكون هناك أسباب أخرى جعلت من روائية كرضوى عاشور لا تأخذ المساحة المناسبة لنتاجها الأدبي والثقافي، لا ككاتبة امرأة، ولا ككاتب إنسان؛ بل كشامة لا تزول من وجه الأدب العربي.

 

 

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!