لصحيفة آفاق حرة:
قراءة في ديوان ( قطوف دمشقية. للشاعر محسن الرجب) لوحة تلوَّنت بالشاعر.
بقلم. الشاعر نضال الرفاعي
حينما نقرأ النص الشعري بعمق، ونحاول كشف خبايا الإبداع الثمينة في الشعر، فإننا بالضرورة سنصل إلى عمقٍ يخدمنا في استخراج كنوزه. فكيف إذا قرأنا الشاعر قبل الشعر، وتصفحنا معالم الشاعر بين صفحات كتابه. وكيف إذا كنا خبيرين بالشاعر ومشاعره؟
لم أكن أقرأ النصوص وحدها أثناء رحلتي في ديوان ( قطوف دمشقية ) للشاعر السوري محسن الرجب، وإنما كنت أتأمل الشاعر، عينَه ولونَ وجهه ونغمةَ الأوتار في صوته شعرًا، وأحاول قراءتها معًا علِّي أصل إلى ما استطعت من العمق؛ فأفوز وحدي بما لم يعيه هو من الكنوز، وبما خبأه القلب في الأعماق بلا استئذان من الشاعر ولا حتى من اللغة.
لم يكن الشاعر ينظم قصائده بقوالب جاهزة, ولا يتكلف في محسِّناتها، ولا يُتعب نفسه في إقحام مفرداتٍ ليست منسابةً مع دفقة الشعر في القصيدة. إنما كان مُستسلمًا لعاطفته، واثقًا في دفقته، وعارفًا لمَ يكتب ولمن يكتب. فاختار لنا من البحور أعذبَها، ومن الألفاظ أسهلَها وأكثرَها انسجامًا مع إيقاع القصيدة، ومن العواطف أشجاها، ومن الوصف أعذبَه ليخرج إلينا بلوحةٍ تلوَّنت بتفاصيل الشاعر أسماها قطوف دمشقية.
في هذه القراءة سأسلط الضوء على الألوان التي اختارها الشاعر للوحته، والدلالات التي انعكست بجلاءٍ من هذه الألوان. فقد كان للحياة والأمل في عيشٍ يليق بإنسانيتنا الحظَّ الأكبر من فرشاة محسن الرجب، وقد اختار اللون الأخضر للدلالة عن أمله الذي عاش به سنين عجافًا سرقتها الغربة من عمره بانتظار الواقع الذي ينبغي للإنسان العربي، ولشاعر مهجر أتعبه الحنين.
لقد غطَّى اللون الأخضر مساحة كبيرة من ربوع الشعر في هذا الديوان. ولا عجب لو ظننا أننا في حقلِ شاميِّ الإنبات يؤتي أُكلَه لنا كلما أتعبنا المسير بين أشعار الحنين. هكذا كان شاعرنا يهدينا قِطفةً خضراءَ تبعث فينا الأمل في الحياة.
يقول الشاعر في قصيدته (غصة وجع):
لا لن تنال بكيدك الشمس التي جاءت تضيء بوجهها الوضاح
و ستطلع الازهار يوما قادما و ستورق الحارات بالأفراح
وفي قصيدة ( حزن قلبي ):
و تخضرُّ الرؤى أملا
و تخبو كل أناتي
و تغدو الطير باطنة
و تشدو للندى الآتي
وفي قصيدة ( لا تحزني ):
و لسوف تبقي للرياض مشاتلا خضراء تُسقى من دم الأطيار
حتى وإن لم يظهر الأخضر جليًّا فقد لامست المعانيَ دلالتُه ذاتُها، فيقول في قصيدة ( سندس ):
من سُندسٍ هذي العيون وسحرها
يأجوج يعجز أن يفك طلاءها
وحيثما كان الأمل نجده أخضر مورقًا وارفًا. فجاء في قصيدة ( قلبان ):
حتى الغصون تمايلت أملًا
من قُبلةٍ لمعت على الثغرِ
وفي قصيدة ( خبريني ):
كل صبح تنتشي ا لآمال في وارفات الطير تشدو الأخضبا
وفي الجانب الآخر كانت الحرب تحاول مسح كل هذا الأمل بلونها الأحمر الذي توقَّد من شرار البنادق، وسال مسكًا من الأبرياء، وانتفض غضبًا من نبض الرجولة. حتى إذا ما كان الدمار استحالت جدران الديار إلى الأسود حدادًا وخرابًا وانعدامًا كالموت.
لقد أشار الشاعر في كثير من المواقع لحمرة الحرب وسواد الموت، فيقول في قصيدة (عشتار):
و دياري بطلاء أسود
صيّره الجمر إلى العفن
و بقايا أشلاءٍ سكنت
في حرم الموت و لم تكنِ
لقد بقي الأمل بالحياة طريقَ الشاعر الذي ما حاد عنه برغم كل شيء، وكان الشباب بآماله وأحلامه ثمنًا نفيسًا لم يكن الشاعر ليدركه إلَّا بعدما أبصر الخريف في أوراقه الخضرِ السندسيَّة. فشعَّ الأصفرُ من لوحته دلالةً على هوان العمر، وعلى الضيق وفقدان الوسيلة. هذا اللون الذي لم يشأ الشاعر أن يُظهره لولا أن فرشاته كانت واحدةً من أدوات الشعر لديه. وهي التي كانت بالأصل غصنًا من ربيعه لم تستطع صبرًا على الأمل, فواجهت الشاعرَ بحقيقة العمر الذي مضى وانعكس في وجهه أصفرَ من الخريف، وأشدَّ فتكًا من الشيب.
ففي قصيدة ( هذا الشباب ) يقول:
ما عاد للفجر طعمٌ في مطالعه
و لا الغروب يحاكي لمسة السحرِ
مصفرّة و عروق الوجه ظاهرة
و العين فيها قذىً من لفحة القهر
وفي قصيدة ( أنا وأوراقي ):
تصفرُّ أوراقي ورقَّ كتابي
والريح تذروني مع الأعشاب
قذفٌ تقاذفها فضلَّ خضابها
حتى تبدَّد أخضرُ العناب
ومثل انعكاس الألوان في مكنونات الديوان, فإن لشفافية الندى سطوتها على الملامح اللونية، دلالة جليَّة تمثلت بالاكتفاء, اكتفاءِ الشاعر بقليلٍ من ساعات الوصل مع الوطن، وطن الياسمين والندى، وبقليلٍ من دفء أحضان الأحباب. كان يكفيه الندى ليرتوي, ويكفيه ليزهر، ويكفيه ليعطيَ الحب الذي ينبغي. لقد تكرر كثيرًا ذكرُ الندى واستجداء الوصل حتى تطرف إلى ذكر الفعل ( أُندى ) .
يقول في قصيدة ( حرَّة ثكلى ):
يا بؤس عمري أن تصيَّدني الردى من قبل أن أندى و ماءك أرشف
وفي قصيدة ( تعالي ):
تمرّ اليوم ذكرانا فتندى
رؤوس الشوك في بعض المجال
و تخضرُّ المواسمُ أملاتٍ
بطعم الطيب ترفل في ابتذال
وفي قصيدة ( الأمر لله ):
في شرق بيدرنا وادٍ يهيم به
ماءٌ ترقرق من ألطافه ألنُّسُمُ
لا زلت اسمعه شدوًا تحن له طير الصباح فيندى شطه الحَلِمُ
وفي قصيدة ( ويح قلبي ):
خمسون مرّت و الندى ما ذقته إلا نجيعًا ماهلا لهَّابا
تلك لوحة متكاملة تلونت بالشاعر بكل تفاصيلة. بالحب والوفاء، وبالفقد والحنين رسمها لنا دفقاتٍ شعريةً عذبة، ليقدم لنا قطوفه الدمشقية على طبقٍ من شعر. فلا نملُّ تناولها ولا ننسى مذاقاتها، ولا سحر بيانها. وإن مَن يريد لمسَ الوفاء للوطن، فما عليه سوى المرور في ديوان ( قطوف دمشقية ) وقراءة الشاعر في شعره.
….
إربد. الأردن
3 / 12 / 2021