لصحيفة آفاق حرة:
قراءة في رواية .أعمدة الغبار.
الكاتب .الياس فركوح.
اصدار .أزمنة للنشر.
ورقيه. 2007.
بقلم : أحمد العربي
.الرواية تدور في زمن نهاية سبعينات القرن الماضي وبداية الثمانينات.. وابطالها مختلفي النشأة .الحدث الروائي يعيش في أزمان عدة وأماكن مختلفة بين عمان وبغداد وبيروت. عوالم الرواية متداخلة في ذاتية ابطالها، موغلة في استبطان النفس والآخر .تارة تتكلم بلغة الراوي، كلهم جلسوا على مقعد التعبير الذاتي. وتارة أخرى تأخذ صيغة المتابعة للحدث من خارجه.
الرواية ابنة أحداث عصرها وهمومه، وبهذا الامتداد تأخذ الرواية جماليتها وتميزها من .
أبطال الرواية؛ نصري وصبا وزكريا وزوجته داليه وسلطان. نصري ابن عمان ولكن بالتبني فهو فلسطيني . وهو منغمس في فلسطينيته، فجيعة اللجوء و ألم الغربة .ومحاولة العمل لاسترداد الأرض والهوية والمعنى في الحياة. كان كأغلب مثقفينا يمتلئ بالعمق الثوري كمثقف انتمى للثورة الفلسطينية من خلفيات فكرية يسارية. عانى من احباطات الثورة ومن الثوار أنفسهم .عانى من حضور السلطة وراءه في كل شيء، كانت كنفَسه في حياته. ممتلئا باحساس الأزمة الذاتية للثورة المقتلعة من الاردن والمزروعة في لبنان. وكانت بيروت محطته في مجال الإعلام وليس بعيدا عن الثورة . (ولأنه إنسان)؛ فهو يعيش الهم العام وحياته الخاصة بتداخل كامل، كما هي الحياة . سيتواصل مع حبه الأول، الفتاة المنتمية للثورة وله شخصيا، ولأنها بالصدفة كانت من الطائفة التي وقفت ضد الثورة الفلسطينية (الميليشيا المسيحية وقتها). أهلها ضد حبهما ، واجهوها ، قررت الزواج منه رغما عنهم لأنها ابنة الثورة وتريد تطبيقها على نفسها. تابعت رحلة الزواج الذي لم يحصل .لأنها هزمت أمام عنف ووحشية الحرب في لبنان .وغابت في ظلام الجنون بعد مشاهدة إعدام مجموعة من الناس بينهم أطفال تعرفهم على أحد الحواجز . لمجرد أنهم من (الآخرين، الطرف الآخر طائفيا..) وغابت عن الوجود الواعي. عاد نصري لعمان خائبا من حبة وضياع حبيبته وضياع الثورة أيضا. لبنان (كسلطة سياسية) سيتوافق مع الغرب و(اسرائيل) وسوريا .وستكون الثورة الفلسطينية هي الثمن والضحية عبر ضربها أولا ثم إخراجها من لبنان لاحقا. سيجد أمامه صديقة عمرة ابنة خالته صبا الفتاة الثائرة بطبعها . والتي كانت قريبة منه فكريا وسياسيا ونفسيا . والتي تزوجت من الخليجي الذي يتعامل معها على أنها وقف جنسي يتركها لفترات متباعدة ويبعث لها مصاريفها ويحضر بين فترة وأخرى ليأخذ حقه الجنسي منها ويعود للغياب مجددا. تعيش احساس المهانة .و تنتقم لنفسها عبر علاقة سرقة متبادلة للذة مع نصري فيها كثير من الجنون والحب يحصل ذلك تحت نظر الخالتين اللتين لا يعرفان كيف يمنعان حرام حاضر. في عمان سيحضر سلطان ابن الصحراء الذي يحمل في ذاته هاجس انجاز فلم ينقله دفعة واحدة لصدارة المجد والشهرة والمال. سيكون ممتلئا باحساس الفقر وعارة. يقرر أنه يجب أن يصنع لنفسه موقعا ما في الحياة بأي ثمن. يتفاعل مع المثقفين والسياسيين المعارضين ويحاول أن يكون منهم .ولكن في لحظة ما يفترق عنهم لقناعته أن طريقهم لا يؤدي إلا إلى الخيبة أو الفشل او الاعتقال او التشرد. يدخل في دوامة العمل الصحفي ويكبر به وينتصر ذاتيا لما خطط له، ولسان حاله وحال اصدقائه يقول هل نجح فعلا..؟!. في عمان سيحضر زكريا العراقي وزوجته داليه وابنه إبراهيم. زكريا واحد من المثقفين المشبعين بالأفكار الثورية التي ملأت رؤوس كثير من الشباب في تلك الأيام وأعطتهم عمق الهوية والمعنى . وجعلهم ينخرطون في الأحزاب اليسارية. ولكنهم اصطدموا في التناقض الحاصل بين الأفكار بمثاليتها .وبين من يتمثلها من البشر .ويختلف مع رفاقه وسيكون متمردا .. والحل عند قيادته المتنفذه . التي أصبحت مشكلة على الفكرة وعلى النضال نفسه. بأن ترتاح منه عبر إرساله لعمان.. زكريا مسكون في زكريا المذكور التوراة، يراه شخصية ثائرة تقرأ كثيرا من واقع معاش وكله ينذر بالخراب. سيصنع مع داليه زوجته التي اعتبرته قضيتها وقبلت كل المخاطر معه ومن أجله.سيكون هو وداليه ونصري وصبا وسلطان .نواة مجموعة تعمل لتغيير الدنيا. الدنيا التي يعيشها نصري برتابة شربه فنجان قهوته قرب النافذة وحضور سيارة القمامة لتأخذ محتوى حاوية الحي في توقيت معين دقيق كالساعة… سيدور الزمان سنوات قليلة لنصل لعام 1981 وحزيران وبعده . زمن اجتياح بيروت .سيبقى نصري في عمان يجتر الايام والخيبات ويعمل صحفيا . ويعتاش لقمته بعرق جبينه. وسيكون سلطان مسؤوله الصحفي .وستفترق بهم الطرق النفسية والسياسية . وسيعرف سلطان كيف ينغرس في عمان و يصنع مجده الشخصي ولو من خواء.. ستلتحق صبا بزوجها في السعوديه .بعد ان يئست من نصري الذي ذهبت كل أحلامه مع عقل حبه الأول في بيروت. ولو أنها ونصري قد أشبعوا ذاكرتهم بعلاقة ولذة تستعاد في أيام الخيبات القادمة. أما زكريا فيذهب إلى بلد أوربي مع زوجته وابنه. يحاول أن يصنع معنى ويخلق مبررا لوجوده الإنساني.
من نافذته في عمان يطل نصري على الحدث وعبر تلفاز يتابع مسلسل ليلة سقوط غرناطة .ويتابع سقوط بيروت .ما أشبه البارحة باليوم .مازالت مدننا تسقط. يتابع احتلال بيروت وتدميرها. وترحيل الثوار ودخول لبنان عصر التبعية المطلقة لتحالف اقليمي دولي يلغي قراره الوطني مطلقا. وينقل الثورة الفلسطينية إلى رحلة اغتراب جديدة.. سنحتاج لروايات أخرى تدونه.
من النافذة ذاتها ومع فنجان قهوته يطل نصري على الحياة ويتابع سيارة القمامة بوقتها المعتاد تلم قمامة حييه.. وكأنها الحقيقة الوحيدة في الحياة…
الرواية ممتعة تتعب قليلا في تتبع مسارات أبطالها وتداخل زمانهم ومكانهم و دواخل أنفسهم. هي رواية تمر على الوجع العربي بكل أبعاده، بطريقة الإطلالة العابرة و المعبره.. ترسم خيبات العمل السياسي العربي .وخيبات الثورة الفلسطينية. وحضور الأنظمة الاستبدادية كالقدر الباطش في حياة الناس.. وترسم خيبات الفشل الفردي والحياتي والسياسي العام…هي رواية الخيبات… لا تحمل المسؤولية لأحد بالمباشر.. لكنها تحمل الكل مسؤولية ما حصل ضمنا..البشر و الأنظمة والحركات السياسية والثورة والثوار والبنى الاجتماعية.. والعالم أجمع..
للرواية امتداد في ارض الواقع الان .كتبت بين 1989 و 1995. وهي تقدم أرضية لتراكم خيباتنا حتى يأتي الربيع العربي. الذي صار حقيقة واقعة على الارض. والذي يخوض معركة وجود مع كل الأطراف الدولية والإقليمية والأنظمة المستبدة التابعة.. وما زال شعبنا مستمر في معركة الحرية والكرامة والعدالة والديمقراطية وتحقيق الحياة الأفضل.
….