بقلم:عفيف قاووق ( لبنان ).
ثرثرة في مقهى إيفانستون للكاتبة المقدسيّة هناء عبيد والمقيمة في شيكاغو، صدرت في طبعتها الأولى العام 2023 عن دار فضاءات للنشر والتوزيع في عمّان- الأردن. كُتبت بلغة سرديّة وبأبعاد فلسفية ونفسيّة، حيث صنعت نسرين في مخيلتها طيفا لشخصية سارة واعتبرتها توأم روحها.ومن خلال هذا الطيف أطلقت الكاتبة العنان لسارة للبوح بكل معاناتها وعذاباتها التي بدأت مع طفولتها ورافقتها في كل أيام حياتها.
إذا أردنا تجنيس هذه الرواية نجد انها تنتمي لعدة اجناس أدبية منها: الأدب السياسي، الأدب الإجتماعي وحتّى أدب الرسائل، إلا أن ما يجمع هذه الأجناس كلها هو أدب الإلتزام الذي يبدو جليًا من خلال ما تتناوله الكاتبة من قضايا وموضوعات في رواياتها ملتزمة بإثارة القضايا الوطنية والسياسية التي تمس في جوهرها ما يواجهه الفلسطيني سواءً في الأرض المحتلة او في المنافي وبلاد الإغتراب.
امتازت الرواية باعتماد تقنية الإسترجاع في أكثر من موضع، وتماشيًا مع تقنيات العصر وبما ان الرواية تضمنت نفحة من أدب الرسائل فقد اعتمدت الكاتبة على التكنولوجيا فجاءت رسائلها عبارة عن إيميلات عبر البريد الإلكتروني ووسائل التواصل الإجتماعي الرائج إستخدامها في عصرنا الحالي. وما يُميز هذه الرواية أيضا هو عدم اعتمادها على الراوي الواحد او السارد العليم بل أن الكاتبة أفسحت المجال لأكثر من راوٍ وهو ما يعرف بتعدد الأصوات، بحيث كانت حيادية ومانحة الفرصة لكل شخص من شخوص روايتها بأن يبوح بكل ما يعتمر بداخله انطلاقًا من وجهة نظره وفهمه لما يمر به دون تدخل أو إيحاء من الكاتبة، وهذا ما يضفي على الرواية الكثير من المصداقية والواقعية.
ولكي لا يقع القارىء في حال من الملل كان ما يشبه تقطيع المشاهد عن طريق الإنتقال إلى الإسترجاع او الفلاش باك مما يدخل عنصر التشويق لدى القارىء ويحفزه لمواصلة القراءة ومعرفة ما ستؤول إليه الأحداث لاحقًا. وإلى جانب تعدد الرواة فقد شهدنا أيضا تعددأ للأماكن بدءًا من الاردن الى اميركا وإيفانستون مرورا بالنرويج مع الإشارة إلى بعض مدن فلسطين كالخليل وغزّة والقدس.
رواية ثرثرة في مقهى إيفانستون، رواية ذات وجيهن ظاهريّ وباطنيّ، ففي وجهها الظاهريّ يمكننا القول أننا أمام رواية إجتماعية ذات بعد نفسي، تعالج مسألة الإنفصام أو ما يسمى بالإضطراب الوهمي، والذي غالبا ما يصيب الفرد نتيجة تجارب مؤلمة ورغبات مكبوتة يصعب تحقيقها،بحيث يصبح المرء عاجزا عن التفريق بين الحقيقة والوهم. وهذا بالضبط ما قدمته لنا الكاتبة من خلال شخصية سارة المتخيَّلة – والتي هي بالواقع نسرين- حيث تفصح سارة أنها عاشت طفولة بائسة مع زوج أمها ثم تزوجت لتصبح زوجة مهملة من زوجها رمزي الذي يعاملها بفظاظة وخشونة مما حملها للتوهم بأنّها قتلته وجشّت رأسه بحجر، لتختفي بعد ذلك وتضع نسرين في دوامة البحث عنها وعن حقيقة ما إذا كانت فعلا قد قتلت زوجها كما تدعي.لنكتشف في النهاية أن سارة ما هي سوى نسرين المضطربة نفسيًا نتيجة لموت والدها قتلًا على يد الإحتلال في القدس. ولقد أبرزت الرواية الصراع الأزلي داخل النفس البشرية بين الشر والخير، ففي أحد الحوارات تقول نسرين لسارة”أنتِ كثيرًا ما تتذمرين بينما أنا أجد ملاذي في إسعاد الآخرين، تمتلىء نفسك بالغل والحقد ورغبة في الإنتقام”(ص16).كما عبرت عن هذا الصراع الذي يعتمر في النفس البشرية من خلال ما درجت عليه نسرين من عادة في طلب فنجانّي قهوة أحدهما حلو والآخر مُر، فكيف لشخص أن يشرب قهوة تحمل طعم الحلاوة والعلقم في الوقت نفسه؟ إلا إذا كان يعيش صراعا داخليًا وتشتتًا ذهنيًا.
إضافة إلى هذا فقد تناولت الرواية الآلام النفسية التي يعانيها الشباب العربي نتيجة إغترابه وإبتعاده عن جذوره كما عبَّر عن ذلك ليث بقوله:”صعب أن تترك جذورك وتحاول أن تنبت لك جذورًا جديدة في أرض أخرى (55). ونتيجة للأوضاع المتردية في معظم البلاد العربية بعد ما سُميَ بالربيع العربي أصبح الإغتراب القسري هو ما يتشارك به الشباب العربي من مختلف الأوطان ولكي لا تقع الكاتبة في فخ تسمية هذه الأوطان فقد لجأت للترميز واختارت ان تسميها ببلاد النخيل القادم منها ليث الذي يقول بلسان حال معظم الشباب العربي : لم أختر الغربة يومًا،لكن أحلامي تلاشت فلم يعد مسقط رأسي وطنًا صالحًا بعد أن امتلأ باللصوص ومدمري الأحلام” (ص56).
لقد إستفاضت الكاتبة على لسان شخوص روايتها في الإشارة إلى ضرورة التمسك بالجذور مهما بعدت المسافات، تقول فاطمة ابنة الخليل: “كيف سينسى الفلسطيني جذوره المتغلغلة في وجدانه؟ (ص80). وفي موضع آخر تفصح عن وصية والدتها لها: ” لا تقطعي رحلاتك إلى الأرض، هذه أرضنا وحلمهم أن ننساها” (ص116). وبهذا المعنى وردت عبارة في الرواية لا يجب ان تمر مرور الكرام لما تحمله من موقف سياسي ووطني لافت، وهي ما قالته نسرين من أن الأردن وطن دافىء إلا أنّه لن يكون يومًا وطنًا بديلًا عن فلسطين” (ص111).
هذا بإختصار ما يمكن استخلاصه من الرواية إذا تمّت مقاربتها من هذه الزاوية النفسية والإجتماعية، ولكن جوهر الرواية كما قلنا يكمن في مكان آخر وفي منحى مختلف تماما وأكثر تشعبًا. وهنا لا بد وأن نسجل للكاتبة براعتها في اعتماد ما يشبه التورية فقدمت لنا رواية على أنّها تعالج أزمات نفسية ما نتيجة القهر او الإغتراب، ولكنها في الحقيقة هي رواية ذات بُعدٍ سياسي ووطني وهذا ما نلمسه إذا ما حاولنا فك شيفراتها والقيام ببعض الإسقاطات على الواقع العربي عمومًا والفلسطيني خصوصًا.
بداية ليس مصادفة أن تنتقي الكاتبة شخصياتها بمجملها من العرب والفلسطينيين – بإستثناء السيدة نانسي المرأة الآتية من النرويج لتستقر في أميركا – .وهذا ما يمكنها من الإطلالة على ما يعانية الفلسطيني المغترب والمُبعد عن أرضه.
وبالإنتقال للبعد السياسي والترميز في هذه الرواية، فلو إستمعنا إلى سارة وهي تقول: ” كنت صغيرة حين إحتلّ هذا الغريب الدار ورأيته يطلق النار على رأس أبي بعد أن كسّر عظامه بعقب البندقية،هذا الرجل الغريب –زوج أمي الوحش- كان دومًا يلبس بدلة عسكرية كاكية اللون ويحمل على ظهره بندقية، لقد طردني من بيت أبي وأمي وإدعى انّه مالك البيت ولديه حاجيات فيه قبل وجودنا نحن”. إذا أردنا التمعن فيما قالته سارة نجد ان قولها هذا بالتأكيد يرمز إلى المحتل العسكري الذي يدعي زورًا أن له الحق في هذه الأرض التي إغتصبها عنوةً.
وفي موضع آخر وتحديدًا الصفحة 137 تقول سارة ما مضمونه أن زوجها يريد أن يُسكِن صديقه وزوجته معهم في الغرفة الفارغة متساءلة كيف لها ان تعيش بحرية مع أغراب تتقاسم وإياهم المنزل. أليس في هذا القول إشارة إلى حركة الإستيطان التي تمارس في مصادرة البيوت والأملاك؟.
إشارة رمزية قد لا تخلو من البعد السياسي والوطني وهي عندما تفصح سارة عن وصية والدتها لها: ” واصلي الرسالة يا سارة، كانت تحمل بيدها حجرًا أخذته منها، حينها قالت لي هذا هو إرثي لك” (ص12).هذه الوصية من الأم لإبنتها تعيدنا بالذاكرة إلى إنتفاضة الحجارة وتعلن بوضوح ان المقاومة ولو بحجر هي السبيل الوحيد لإسترجاع ما خسرناه.
لقد حضرت فلسطين بقوة في هذه الرواية وفي مفاصل كثيرة، وتضمنت إشارة تذكيرية بيوم الأرض الذي لا يمكن إختصاره بتاريخ يوم واحد فكل يوم من ايامنا هو يوم الأرض، وأيضا يأخذنا خالد إلى مدينته غزّة وكيف ان الحياة فيها يغلفها القلق الدائم وهي تنتظر الغارات القاتلة لسكان عزّل لا يحملون غير حقيبة من الأحلام المؤودة. ومشيرًا إلى الغارات التي تستهدف الأماكن المدنية بحجة انها تشكل خطرًا على الإحتلال بينما الحقيقة هو التصميم على قتل هذا الشعب.لكن هذا لا ولن يمنع غزّة من ان تنجب اطفالاً يرضعون مع الحليب العزّة والكبرياء. وغزّة لن يُقْصم ظهرها يومًا فجذورها عميقة بعمق تاريخها الأصيل أمّا فاطمة تقول ان لها ابنة أسمتها فلسطين وصبّي اسمه خليل متمنية ان تنجب المزيد من الأبناء،لتحضن يافا وجنين وبيسان وصفد وتأخذنا الى الخليل بعين والدتها التي تعتبر الخليل قطعة من جسد الوطن ولا يمكن بترها مهما حاولوا إقتلاعها، لقد إنحفرت الخليل في قلبها كوشم أبدي وهي تستذكر المسجد الإبراهيمي وما حدث فيه من مجزرة أقدم عليها العنصري جولدشتاين العام 1994. والحديث عن فلسطين لم يقتصر على الخليل وحده بل كان للقدس نصيبها التي تستحقه ، فالقدس كما تقول نانسي لها نور خاص يدخل السكينة إلى القلوب، والأماكن المقدسّة فيه تتشابك فكنيسة القيامة توجد في الجهة المقابلة للمسجد الأقصى. وللقدس أبواب عريقة كانت تغلق لتحميها من الطامعين أمّا الآن وبعد أن احتلوها فأبوابها أصبحت تغلق في وجه أصحابها بحجة أنهم إرهابيون.
الى جانب ما ذكر فإن التراث الفلسطيني كان حاضرًا أيضا من خلال جمعية إحياء التراث الفلسطيني كالحديث عن ضرورة التمسك بالثوب الفلسطيني حيث يحمل كل ثوب تاريخ مدينة فلسطينية، كي يتم تناقله بين الأجيال، فالإحتلال يسعى لسرقته كما سرق الأرض والوطن، مع الإشارة الى الأكلات الشّعبيّة الفلسطينيّة التي تعتبر من صميم التراث الفلسطيني والذي يحاول الإحتلال أيضا طمسه ونسب تلك المأكولات إليه.
كما ان الرواية قاربت مسألة الإعلام وأيضا كتابة التاريخ الذي يغلب عليه الكذب، فالتاريخ يكتبه المنتصر أو الظالم في معظم الأحيان. وأيضا تشير إلى الإعلام الموجّه الذي لم يكن صادقًا يومًا.فهو يتبع القوي ويغسل الأدمغة ويعمل على تفريق الشعوب، كما تقول نانسي.(103).
مسألة أخرى بدأت تلوح في الأفق وهي مسألة بداية التغيير في الرأي العام الأميركي وتحديدًا أولئك القادمون من بلاد أخرى كالسيدة النروجية نانسي المتعاطفة مع القضية الفلسطينية والتي رفضت أثناء زيارتها للقدس أن تستمع لشروحات الدليل السياحي خشية منها ان يسرد التفاصيل التي تتناسب مع تاريخ الإحتلال، وتقول لا مصداقية يمكن أخذها بدقة إلا ممن عاش على هذه الأرض على مر العصور.(106).
قضايا أخرى تناولتها الرواية ولو لمامًا كمسألة الزواج غير المتكافىء كما حدث مع سارة التي تزوجت من شخص لا تعرفه وتسأل كيف لشخصين أن يعيشا في بيت واحد؟ كيف يمكن لها أن تتعامل مع قلب مغلق وكيف للروح أن تتواصل مع عاطفة ميتة؟ (ص37).
لا بد وان نسجل للكاتبة متابعتها لما يدور في الأوساط الثقافية والأدبية من خلال إشارتها إلى رابطة الأدباء العرب حيث تتم مناقشة الأصدارات الأدبية سواء وجاهيا ام عبر تقنيات الزووم كما يحصل حاليا في معظم الملتقيات الأدبية. ولكن ما لفتني هنا شجاعة نسرين – أو الكاتبة لا فرق- في طرحها لسؤال إشكالي بعد مناقشة روايتها فتقول: لا أدري إن كانت الآراء تحكي الحقيقة أم أنّها مجاملات؟ كل الآراء متشابهة “قلم جميل واعد، لغة متينة، أفكار عميقة” فهل هذا قالب معدّ حتى يضمن كل كاتب ألا يهجو أحدٌ أعماله”؟
سؤال برأيي يجب التوقف عنده خاصة إذا كانت مناقشة الروايات او الكتب تتم بحضور كاتبها، فإلى أي مدى تكون مساحة الحرية والجرأة والموضوعية متاحة امام من يريد ان يدلي بمداخلته.
ختامًا مبارك للأديبة هناء عبيد هذا الإصدار الهادف وإلى المزيد من التألق والنجاحات.