لصحيفة آفاق حرة :
_______________
قراءة نقدية في مجموعة (شهي كالوداد)
للشاعرة التونسية وداد رضا الحبيب
بقلم – علاء الأديب
القراءة الأولى: حضور الغياب لصورة الوطن في ضمير الشاعرة وداد الحبيب
لم تبرح مواطن الوجع في وطنها الغائب عن معناه حروفها المثقلة بهموم ذلك الغياب المريع.
الكلمة في القصيدة تبحث عن أرض لها وعن مستقر لمعناها في رحلة تشعر وكأنها نبش في الماضي عن معنى منشود للحاضر.
الوطن ذلك الهاجس الذي لا يمكن إلا أن يكون حاضرا بأقصى حدود الوجع.
الوطن الذي كان ولم يعد.. يتجسد في معظم قصائد الشاعرة جسدا لروح تحمل بين انفاسها ما لا يطاق من صور تثير شجن الصخور وتنزل دموع الجبال.
بين روح الشاعرة المرهفة وعمق وجع الوطن حكاية تحدثت عنها الحروف وقالتها الكلمات بلغة مبتكرة وأسلوب جديد عن كل أساليب الإحساس بالفقد أو الرثاء.
ومن هنا لابد من أن اعيد على المستمع ما أقوله دائما وما سأبقى اكرره بأن الشاعر الذي لايكون وطنه هاجسه الأول فلا يمكن ان يكون شاعرا وإن كان ذا سطوة وسلطة على مفرداته. فما من شيء يمكن أن يحرك مشاعر الإنسان في الشاعر كأنين وطنه ووجع شعبه ودمار مدنه وشوارعه وضياع معنى أن يكون فيه الإنسان إنسانا.
ترجمت الشاعرة الكثير من مشاعرها تجاه وطنها بالعديد من الصور الشعرية التي بدأت بالوطن وانتهت به.
ومن الجدير بالذكر واللافت للنظر بأن وداد قد آثرت على ذاتها إلا أن تكون شاعرة وطنها من خلال اهدائها مجموعتها هذه له بكلمات قلت بعددها فاضت بمعناها حيث قالت:
(إلى فجر طال غيابه…. وغروب أبى الرحيل…. إلى وطني)
ومن خلال تلك الكلمات المقتضبة العميقة عمق الجرح في القلب المضمخ لك ان تتصور ما يمكن ان تحمل المجموعة للوطن ذلك الغياب الذي طال على من ينتظر عودته وهو ينفق في هذا الانتظار أجمل سنين العمر والغروب الذي لا ينوي الرحيل والذي أثقل مافيه خطأه التي داست من غير شفقة كل شيء مزهر مثمر… مابين هاتين العبارتين مساحة من الوجع لا يمكن لنا إن نحدها بحدود او نتخيل لها مقدارا.
لقد استوقفني هذا الإهداء لقوة عبارتيه.. فتمنيت فعلا في حينها أن أجد بين طيات تلك المجموعة ما يمكن ان يفي بمعاني هاتين العبارتين. ولا اكتم القاريء سرا بأني لم أكن واثقا للوهلة الأولى من أن وداد ستتمكن من احتواء المعنى لذلك الإهداء في نصوصها الشعرية. هذا ليس لأنني أشك في امكانيتها الشعرية على احتواء ذلك المعنى لكن السبب كان في أن العديد من الشعراء والشواعر في زمننا هذا وللأسف الشديد يفتتحون دواوينهم ومجموعاتهم الشعرية بإهداءات ومقدمات غالبا ما تكون بلا علاقة تذكر بمحتواها او انهم لم يتمكنوا لسبب او لآخر من تجسيد تلك الاهداءات او المقدمات او الإيفاء بها من خلال النصوص التي تحتويها مجاميعهم او دواوينهم.
ومن هنا كانت البداية في تركيزي بقراءتي بحثا عن مبتغاي وعن إجابة لسوالي تطمئنني.. هل ستفي وداد بعدها لقارئها فالإهداء هنا بمثابة عهد ووعد لابد من الإيفاء به.
وما ان بدأت القراءة حتى استوقفني العديد من الصور والنصوص التي بددت شكوكي الأولى وفاقت حدود تصوري وهذا ماجعلني اتناول الوطن في قراءتي لنصوص وداد اولا دون غيره من ضمن ما ساتطرق اليه لاحقا في مقلات أخرى بإذن الله.
ففي قصيدة (الفرح الشريد)
تمكنت الشاعرة ان تسرق من القصيدة روعتها وإن تمنحها للوطن مغتنمة فرصة انسيابية الحرف ورقة الكلمة لتجسد معنى وجع الحسرة في عيون طفل صغير يحلم بالعيد في مدينة لم تبن أسوارها يوما.
نص
…….
(جاء العيد
خلف أبواب مدينتنا
واسوارها العالية التي لمتبن يوما
قالوا: انها شيدت ورممت وزخرفت
احلام طفل صغير
يبكي لعبة العيد
وأم ثكلى
تعيد رسم ملامح الأيام الموشحة بالذكريات
تخبز الألم بالصمت وتستزيد).
من تلك الصورة يمكن أن ندخل مخيلة الشاعرة وهي ترى في احد أولادها الصغار الذين لايفارقونها وهو يشهد العيد في مدينة كانت قد شهدتها في طفولتها على غير صورتها بين الماضي من الزمان والحاضر فما كان ذلك إلا نزف ذاكرة مورقة على أعتاب حاضر اجرد إلا من الجفاف والضياع فلا الطفل يحلم بالممكن ولا الام عادت تشعر بوجود ذلك الزمن لتلك المدينة المفقودة.
فالطفل لا يملك سوى أن يحلم والام لاتملك سوى أن تخبز من حسرتها الالم بالصمت وتستزيد.
لم تكن تلك الصورة المؤلمة عن الوطن الممثل بالمدينة صورة مباشرة معهودة مستهلكة لكنها كانت صورة عميقة الدلالات والمعنى مما جعلها من أكثر صور القصيدة لفتا للإنتباه مع انها وكما أراه كانت محور جميع مارسمت وداد من صور شعرية في تلك القصيدة التي تعددت فيها الصور.
وفي قصيدتها جسور.. تقول الشاعرة:
نص:
…….
نرصع اللحظة دفقا فدفقا
كحبات الرمان
كانفاس الزمن
كخطى المكان
(كالوطن تنسجه خيوط العنكبوت).
نلاحظ هنا من غير تكلف او تصنع ذلك التواتر الإيقاعي للصورة الشعرية المنسابة كانسياب جدول ترقرق إلى مسامع المنصتين ولكن الحرفنة وخبرة الصناعة قد لعبت دورها في تجسيد هذه الصورة تجسيدا اكبر من أن يكون ذاتيا بابعاده من خلال استدعاء الوطن لهذه الصورة دون انفعال شعري يمكن أن يربك المشهد وإن يخرج تلك الانسيابية عن زهوها الأخاذ وهذا بطبيعة الحال يرجع إلى حسن اختيار اسلوب الاستدعاء فالعبارة هنا (كالوطن نسجته خيوط العنكبوت) لاتقل بإيقاعها الزمني عن الإيقاع الزمني لما قبلها من عبارات (دفقا فدفقا) (حبات الرمان) (أنفاس الزمن) (خطى المكان) فالكل هنا يشير إلى ايقاعات زمنية بطيئة توحي إلى بداية لانهاية لها إن لم تكن نهايات بعيدة.
ومن خلال تلك العبارة تمكنت وداد ان ترسم لنا صورة الوجع المعربد في ضميرها للوطن دون أن تسمعنا صرختها التي لم ترد من خلالها ان تخرجنا عن هدوء إيقاع الصورة لكنها أحسنت في التعبير عن ذلك الوجع بانين الحرف ووجع الكلمة.
فليس أقسى من أن ينسج العنكبوت الوطن خيوطا لم تكتمل بعد رغم كل مافي نسيج العنكبوت من وهن وضعف.
لايمكن أن أقول بأن وداد قد اقحمت الوطن هنا اقحاما لازما بل انها اختارته طوعا ليكون المحور البليغ لكل الأحاسيس والمشاعر مهما كانت ذات لايمكن أن أقول بأن وداد قد اقحمت الوطن هنا اقحاما لازما بل انها اختارته طوعا ليكون المحور البليغ لكل الأحاسيس والمشاعر مهما كانت ذاتية في دلالاتها.
وتستمر الشاعرة بقصيدتها حتى يستفحل فيها الوجع فيها فتضمحل وتيرة الهدوء ليظهر الصوت ويسمع الوجع عندما تقول متخلية بلا أرادة عن رباطة جأشها
نص
……..
(كعذابات وطني
يناجي الدجى لحظة الغسق
نحوك من الذكريات بقايا المعنى
ونواسي الإجابات بطيف هسيس شارد)
أما في قصيدته رسائل القدس
فقد تخلت وداد عن عرش أنوثتها وتركت سماء سيدة الفجر وكأنها قد هبطت إلى الأرض حاملة بكلتي يديها سيفا ونبلا وفي صدرها زمجرة الرعود والبروق كلمات متقدة غضبا لتعبر من خلالهن عن وجع مزمن تمكن من قلبها الصغير الغض الدافق حتى ارهقه حد الإعياء ذلك وجع القدس التي تخلى عنها اقزام القوم وما أبلغ ذلك الدخول إلى القصيدة َهي تقول :
نص:
……
(جف االبحر
ومازال العرب على كراس من سراب)
هنا تتالق روعة الاستعارة تالقا ملفتا للنظر بألحاح حين يستدعى السراب ذلك الوهم الخادع للبصر والبصيرة ليكون ماهية الكراسي والعروش العربية التي مازال يعتليها اهل السلطة في بلاد العرب رغم جفاف البحر الذي لايمكن أن يكون في تلك الصورة إلا بمعنى الأمة ومجدها وتاريخها.
وإذا كانت القصيدة في اولها إقلاع إلى مديات الابداع التجسيدي فلن يكون هذا الإقلاع إلا إقلاع محترف متمكن.
وتستمر وداد بقصيدتها تحكي للقدس رواية قومها وتروي لها رواية التشرذم والتشرد والتقتيل والتهجير فتقول :
نص:
…….
(جف البحر في عيون بلا ضياء
راينا الدمار
والف جار رحل يرثي حال الديار.)
وما ان يدرك القارئ تلك الصورة الشعرية حتى تتجلى لعينيه صورة الآلاف من خيام المهاجرين والمشردين هنا وهناك ليس عن القدس فقط بل عن كل ما وصلت إليه الأيادي السوداء في بلاد العرب.
ولقد كانت صورة ختام تلك القصيدة من أروع صورها حيث كانت صرحة مدوية بأعلى صوت عل هناك من يستفيق. فتقول:
نص
………
(على حبل عروبتنا
علقنا اثداء الثكالى
وأنين فجر هجره المعنى
سمله ليل بلا نهاية
ابتلعته سراديب الغواية
وذاك ياقدس اصل الحكاية).
وقبل ان نغادر فضاء هذه القصيدة وعالمها علينا أن نشير إلى أن وداد قد ذهبت في العديد من جملها ومقاطعها إلى السجع كما ورد في المقطع الأخير الذي أشرنا إليه (النهاية.. الغواية.. الحكاية) وهذا وإن كان غير ضروري في قصيدة نثر كما يطلق عليها جزافا إلا إن الشاعرة هنا قد تركت لانفعالاتها العنان لتتصرف في شكل النص فالزمتها تلك الانفعالات بما ظهر من السجع بدلا عن القافية في قصيدة العمود التي اعتلت وداد ناصيتها في العديد من قصائد ها وما كان ذلك الا أمرا طبيعيا لشاعر يكتب النوعين من الشعر في أن تظهر سطوة هذا على ذاك وبالعكس.
أما ما جاء في قصيدتها مدينة بلا باب
تعود بنا وداد الشاعرة الناضجة نضوج القمر ليلة اكتماله إلى طفولتها البكر لتستحضر باب مديتها التي لم تكن ذات باب يوما في أسلوب قريب من الفانتازيا الموجعة.
فتحكي لنا عن باب مدينتها التي لم تكن بباب وعلى الرغم من ذلك فإنهم خلعوه وهنا تكمن الدلالة على معنى ذلك الباب الذي لم تقصده وداد بابا عاديا بل ذهبت إلى معناه الأكبر الذي يدلل على الأمن والأمان. وما اكتفوا بهذا بل انهم مزقوا الطرقات فيهاوحطموا جسر ها القديم ليشيدوا فيها جسور الغياب.
واغتصبوا حروف حكايتها المحببة التي كانت تقصها جدتها لها على ضفاف التاريخ.
وليس من مطلع على ادب المقاومة الفلسطينية يمكنه ان ينتزع روح هذا النص من روح ذلك الأدب.
وهذا ما يأتينا بالدليل القاطع على أن وداد في هذه القصيدة قد كانت امتداد لتلك الروحية وأن تباعدت المسافات جغرافيا واختلفت المآسي في واقعها ولكن العامل المشترك بأن الوجع واحد والزفرة واحدة.
……
نابل / تونس
29/١٢/ ٢٠٢٠