بقلم. د. ظافر الجبيري. السعودية
قراءة نقدية لنص القصة القصيرة (لحظة ذهبية. للقاص. محمد فتحي المقداد )
بقلم/ ظافر الجبيري. السعودية
نص (لحظة ذهبية) للأستاذ محمد المقداد
من النصوص التي استوقفتني مؤخرًا، فإضافة إلى بنائه المتقن، لاحظت قدرة الكاتب الروائي الأستاذ محمد المقداد على التعبير عن طموح الكاتب ومعاناته في آن.
يبدو النص من القراءة الأولى عن موظف أصابته حرفته الكتابة كمال يقال، وهو يجاهد كي ينال فرصته، متجنبًا ما يجعل مديره ينزل به الملاحظات إن لم يحظ بالتقدير منه!
( لحظة ذهبية) قصة قصيرة تتبدّى للقراءة المتأنية نصًّا في داخله نص أو يمكن القول إنه(نص عن نص) لروائي يحلم بإنجاز رواية؛ و الحلم، كالعادة، من الأمور الجميلة الذي تراود كل كاتب، أي البحث عن النجاح في كتابة عمل خالد ينجز فيه كل طموحاته ليعوض بعض الإخفاقات ومنها التجاهل لموهبته من المدير الصارم الذي ملأ ملف الموظف المبدع بالإنذارات. كيف لا يحقق ذلك أو لا يتشبث بفرصته أو لحظته الذهبية وقد فاز بالفرصة عبر (المشروع القومي للإبداع؟ ).
(خلوة في محبرة أو في مقبرة ) هو العنوان الذي ورد في قصة *لحظة ذهبية* و من الناحية الفنية فقد ظهرت فيه ملامح جهد كبير من كاتبه، ولا تخلو اشتغالات النص الكبرى من إحالات على الوجود والوطن و حالة الاعتراف بالموهبة وسهولة ضياع الحقوق، .فالاغنية التي تترد على لسان البطل تُعزّز من ذلك الشعور ” لكتب اسمك يا بلادي ع الشّمس اللي ما بتغيب”
التقنية السردية أو التكنيك القصصي الذي استعمله الكاتب نراه في مفاصل النص وبنيته، فالبطل يعاني ويسعى لمنجزه ضمن حالة الإبداع التي تتلبسه للوصول إلى الاعتراف بموهبته من قبل مديره و من قبل مسؤولي الإبداع في الوطن. وفي الحفل المنتظر للإعلان عن الفائزين بالمشروع القومي للإبداع، لم تمض دقائق على حضور البطل وانتظار حلمه بالفوز حتى هوى الكاتب البطل! سقط في البحر مرددا أغنيته الأثيرة للوطن.. وأشيع لاحقا أنه انتحر و قد استغل المدقّق في دار النشر هذا الأمر ليسطو على العمل (خلوة في مقبرة) محولا إياه إلى خلوة في محبرة)
فسراق الإبداع لا يقلون خطرا عن سراق الأوطان، إذ نرى المدقق غير الأمين يذرف دموعا كاذبة ثم يضع اسمه على الكتاب!.
ومما أثار أعجابي في النص جملة ” سمح للهواء باستباحة الغرفة…” وهي لقطة جميلة جدا تغنينا مثلا عن: سمح لنفسه باستباحة العمل والسطو على مجهود غيره.
فهل النص يرمز لاستباحة شيء آخر غير الكتاب!؟ ربما، وهو ما أشرت إليه فيه بدء حديثي، وإلامَ يرمز بخط الرقعة؟
أإلى الانتماء العربي فقط؟ أم يلمّح إلى أن هذا الخط هو الأنسب للكتابة تحت الماء !؟ حيث ترتفع اليد عن السطر أثناء الكتابة بصورة أقل من غيره من أنواع الخطوط..! ربما، ولكن حسب ظني فالخط الديواني أقرب لهذه الجزئية !
لا أدري لمَ طرأ على بالي فكرة عنوان (المدقق الخائن) على طريقة (المترجم الخائن)؟ فحالة المبدع في الوطن العربي تكتنفها التحديات والمصاعب الكبرى، فحياة البطل من خلال مقدمة القصة تذكرنا بالشاعر بدر شاكر السياب وقد نُشرت قبل فترة صورةٌ من الأرشيف عن تنبيه إداري له أو لفت نظر صدر بحقه من مديره في العمل بسبب تأخره عن العمل!
● قبل الختام، أقترح على الكاتب ذكر أو إيجاد اسم للبطل- الموظف ليعطي مزيدًا من الاقتراب من( عالم النص عن النص ) وليزداد التكامل بين عناصره في ملامسة الوعي بالراهن، فاللصوص لهم أسماء يسعون بها بيننا ويعملون ضد الإنسان لحرمانه من التقدير الذي يستحقه أو ذلك المجد أوشك أن يناله، لكن البطل الأديب خسر اللحظة المنتظرة لحظ عاثر أو لانتحار أو لأمر آخر.
لا غنى لي عن القول إن قراءة المزيد من قصص وأعمال الأستاذ محمد المقداد تدخلني إلى عالمه الكتابي والإلمام بمشروعه الذي يخلص له بتفانٍ ودأب ما يجعله في مصاف الكتاب العرب المرموقين.
______________
…..
النص المقصود بالقراءة
..
لحظةٌ ذهبيَّةٌ
(قصة قصيرة)
بقلم. محمد فتحي المقداد
حالة من النّشوة والحُبور تغَشَّتهُ، على وَقْع خبر فوزه بمنحة (المشروع القوميّ للإبداع)، وسيتفرَّغ لعمله الأدبيِّ الأهمِّ في حياته على الإطلاق، أحلام النّجاح والشُّهرة على مُستوى القُطر، والحُظوة عند مديره المُباشر، وستنتفخُ إضبارته الذاتيَّة بشهادات الشُّكر والثناء، لِتَطمُر تنبيهات لَفْت النَّظر، والإنذارات القديمة، وسينال رضاه بلا جِدالٍ، عندما راجع نفسه في المساء أثناء استعداده للنَّوم، الذي غادرهُ كامل ساعات ليلته حتَّى الصَّباح. قراره الأخير:
– “مديري عقليَّته جامدة غير قابلة للتطوُّر. عصبيّ المِزاج. حادٌّ وحَرْفيٌّ بتعامله معنا. يلقي أوامره على الموظفين شبيهة بالعسكريَّة. وعلينا جميعًا التنفيذ فقط. من الآن فصاعدًا لن أكترثَ له. مادام الوزيرُ قد وقَّع لي القرار. هذا يعني أنَّه عرف باسمي، وآمن بموهبتي لمَّا قرأ اِقْتراح التنسيب، وإذا قصدته؛ فلن يرفض لي طلبًا”.
اجتماع ضخم عُقدَ في المَرْبَع السَّاحليِّ لجميع الذين قُبلوا لإنجاز المشروع على مدى العاميْن القادمَيْن. مساء، وبعد انتهاء الجلسة الأولى بساعات. قرَّر ثانية الاِنْفراد بنفسه بمكان مُتوارٍ بجوار البحر. لسانه لم يملَّ من إعادة الأُغنية، وكأنَّها علقت بلاصق بجزء حَيَويٍّ من فمه:
“لَكْتُبْ اسمك يا بلادي.. ع الشّمس إلِّلي ما بِتْغيبْ”
أخيرًا. وقف على الشَّاطئ عند حافَّة جُرْفٍ عميقٍ. رَجْعُ صدى صوته يُصدِّعُ السُّكون، إلَّا من أصوات الأمواج المُتكسِّرة على الصُّخور في الأسفل.
بإصرارٍ. يده تُلاحق قُرص الشَّمس الذي يتباعد عنه بعنادٍ.
هَوَى. اِهتزّت قدماه، ولم يُفلِح باستعادة توازنه. مازال لسانُه يُعاند صوت البحر بترداد الأغنية، ويُصِرُّ على كتابتها على طين قاع البحر بخطّ الرُّقعة. بينما يتراءى له وجه المُدير بملامحه الصَّارمة، بنفسه لو كان يستطيعُ عِناقه، بينما اِنْتثرَ رَذاذُ تَفَّةٍ من فمه.
العملُ الروائيُّ الذي انتهى منه قبل عام قرّرت دار النَّشر طباعته. المُدقِّقُ اللَّغويُّ دائِبُ النّشاط بِهمَّةٍ واِقتدار، آمِلًا الانتهاء من رواية “خَلوةٌ في مِحْبَرة” قبل نهاية فصل الخريف.
توقَّف طويلًا في رحاب العنوان مُنشغل الذِّهن، وبانتقاله إلى الصَّفحات التالية. تساءل مع نفسه:
– “كيف كتبها الروائيُّ..! “خَلوةٌ في مَقْبرة” ؟، لا شكَّ بأنَّه كان يهذي سابحًا في ظلام الغُرفة. أستغربُ اِنْحرافَ السِّياق عن الخطِّ العامِّ للمقطع السَّابق واللَّاحق. سأُثبّتها “خَلوةٌ في مِحبَرة”.
رنينُ الهاتفِ جاءهُ بخبرٍ من صاحب دار النَّشر:
– “تأكَّدَ خبرُ موتِ الكاتب. قالوا: إنّه انتحر”.
دمعتان حارَّتان سقطتا من عيْنيِّ المُدقِّق، وتلتهما أُخريان مماثلتان؛ فأصبحت صفحة باهتةً جدًّا، لم يبقَ إلَّا أثرًا من سواد الحبر، بلا معالم واضحة، كقبرٍ دارِسٍ. وليُخرج الكاتب من مأزقه بحكمةٍ معقولةٍ.
من فَوْره أزاح السَّتائر بِنَزَقٍ، وسمَحَ للهواء والضُّوء باِسْتباحة المكان؛ فاستطاعَ اِسْتعراض شريط حياة الروائيِّ خلال دقيقة، وملأ رِئتيْه بالأوكسجين، وطَرَدَ ثاني أوكسيد الكربون من صَدْره بفَرحٍ، وثبَّت اِسْمه على الرِّواية بالخطّ العريض.
5/ 4/ 2023
تحية للناقد الدكتور ظافر الجبيري لهه الإضاءة النقدية التي سلذطها على نص الروائي المبدع الصديق محمد فتحي المقداد ، وواقفا على مفاصل النص والإيغال في عالمه ، ومثمنا جهد المبدع في هذا النص الجميل .