كتب: رياض عبد الواحد
المقدمة
تنبض النصوص الأدبية التي يقدمها حيدر غراس بمزيجٍ عميقٍ من الرؤية الفلسفية، والواقع المُعاش، والتجارب الذاتية التي تتسرب عبر السطور لتكوّن مشهداً شعرياً أشبه بلوحة سريالية. إن هذا النص يتميز بلغته الاستعارية الكثيفة، وتراكيبه الرمزية التي تغوص في عمق الوجود الإنساني، متأرجحاً بين الألم والتأمل، وبين الذات الفردية والموروث الجمعي.
في هذا المقال، سنسعى إلى تحليل النص من جوانب متعددة، مع تسليط الضوء على عناصره الفنية، وبنيته الفكرية، ورموزه المتنوعة، لتبيان ما يخفيه هذا النص من أبعاد جمالية وفلسفية.
التحليل النقدي
أولاً: اللغة وبنيتها الجمالية
اعتمد النص على لغة شعرية مكثفة تمزج بين الاستعارة، الكناية، والجمل الانسيابية التي تمنح النص طابعاً تأملياً. الجملة الافتتاحية “لا دسمَ في أصابعي مع ذلك تُصرُّ الرياحُ الباردةُ أن تلعقَها” ترسم حالة وجودية تُظهر العلاقة بين الذات والآخر (الرياح/الطبيعة)، إذ يُحول فعل بسيط إلى مشهدٍ محمّل بالدلالات. الرياح هنا رمزٌ للعوامل الخارجية التي تتدخل في حياة الإنسان دون إرادته، مظهرةً هشاشته أمام القوى الطبيعية أو المجتمعية.
ثانياً: الصور الشعرية والتناص
النص غني بالتناصات التي تستدعي نصوصاً دينية، تاريخية، وشعبية. الإشارة إلى “الوصايا العشر” و”أعمدة أركان الحكمة” تربط بين البعد الديني والفلسفي، إذ تتجلى القيم الأخلاقية كركائز متهاوية في عالمٍ يعاني من الضياع والتشظي. إضافةً إلى ذلك، نرى تناصاً مع الموروث الشعبي بواسطة ذكر “الحمزة أبو حزامين”، الذي يرمز إلى الإيمان الراسخ بالموروث والذاكرة الجمعية.
ثالثاً: الموضوعات المحورية
1. صراع الذاكرة والنسيان
يتكرر في النص ثنائية النسيان/الذاكرة، إذ يقول: “غيابُ الذاكرةِ صحوةُ الذاكرةِ”. هذه الثنائيات تعكس معاناة الشاعر بين الرغبة في النسيان والتمسك بالذاكرة التي قد تكون عبئاً في كثير من الأحيان. هذا الصراع ينبثق من تجربة وجودية تعكس تناقضات الحياة.
2. الوطن والاغتراب
يفيض النص بألم الفقد والاغتراب، سواء بوساطة الصور الحسية (“البلابلُ تركتْ ديارَها تشدو بأقفاصٍ صفراء”) أو الرمزية (“رسم وطناً قامت الحرب”). يبرز الوطن هنا كفكرة مُشوهة ومفتقدة، اذ تعكس هذه
الصورة عبثية الواقع السياسي والاجتماعي.
3. الحب والحضور الأنثوي
في المقطع الأخير، يتحول النص إلى حالة غنائية حميمة تصف الحب من منظور رمزي، حيث “عيناكِ سمادُ الحروفِ” و”شفتاكِ التي لا تأتي على شكلِ قصيدةٍ”. هنا، يتحول الحب إلى فعلٍ خلاّق يُغذي الكلمات وينقذها من الجفاف، مشكلاً بُعداً جمالياً يتناقض مع قسوة الواقع.
رابعاً: البناء الفني
يتبع النص أسلوباً حراً غير مقيد بالقوالب التقليدية، مما يمنحه سلاسة وانسيابية. الجمل المبعثرة والمتقطعة تمثل تماهياً مع موضوعات النص، حيث الفوضى الوجودية والعبثية هي السمات الغالبة.
خامساً: الرمزية والعبثية
النص مليء بالرموز ذات الأبعاد الفلسفية. على سبيل المثال:
“ذاكرةٌ محشوةٌ بالرصاصِ”: ترمز إلى الجراح العميقة الناتجة عن الحروب والتجارب القاسية.
“رسم قمراً بلعهُ الحوت”: يستدعي قصة النبي يونس، لكنه يُعيد توظيفها لتُظهر عبثية الفن عندما يصبح عاجزاً عن مواجهة الواقع.
سادساً: الأسلوب السردي الشعري
يمزج النص بين السردية والتكثيف الشعري، حيث تتداخل المشاهد البصرية مع التداعيات الفكرية لتكوين فضاء نصي يُشرك القارئ في عملية التأويل.
الخاتمة
إن نصوص حيدر غراس تمثل رحلة استكشافية في أعماق الذات البشرية، حيث يتماهى الحلم مع الواقع، والذاكرة مع النسيان، في مشهدٍ شعريٍ فريد. النصوص لا تقدم إجابات، بل تفتح أبواباً للتساؤل، وتجعل القارئ شاهداً على مأساة إنسانية ممتدة. بأسلوبه الحر ولغته المكثفة، ينجح غراس في خلق نصوص تحتفي بالوجع الإنساني، وتعيد صياغة معاني الوطن، الحب، والوجود بعمق فلسفي وشعري.
.
.
.النص
نصوصٌ خاليةٌ من النيكوتين
…………
لا دسمَ في أصابعي مع ذلك تُصرُّ الرياحُ الباردةُ أن تلعقَها قبلَ دخولِها جيوبَ معطفي ، لعلّها كانت يوماً معطفاً لتاجرٍ يهوديٍّ هكذا قال لي بائعُ (البالاتِ) وأنا أدسُّهُ ثمنَها..!
الوصايا العشرُ، أعمدةُ أركانِ الحكمةِ
أحاديثُ الماضي، إعجازُ النخيلِ، سوالفُ جدّي، أعراسُ البردي، غيابُ الذاكرة ِصحوةُ الذاكرةِ ولائمُ تأريخٍ.
ولاجسداً سواي!!
من ينهشُ من؟
ذاكرةٌ محشوةٌ بالرصاصِ، أم رصاصٌ بلا ذاكرةٍ، الرعدُ لايشكِّلُ قوساً أحمرَ،
في روايةٍ أخرى (قزحٌ اسمُ الشيطانِ) ..!
ليس من الأسفِ بشيءٍ، اختصارُ عمرِك بين حربين، ليس ثمةَ متسعٍ لتبييضِ الأسنانِ..!
لاتتشبثُ كثيراً، لاجدوى للبقاءِ، هل هنا تاريخٌ يُذكرُ؟
البلابلُ تركتْ ديارَها تشدو بأقفاصٍ صفراءَ…
ماعدتُ أشكُّ بأمرِ أصابعي، تنزُّ الدمَّ
لم يمرْ يوماً إلا ويبكي غربتَه، للتأكُّدِ أخبروا مجاييلي كنا نسرقُ بيضَ الأعشاشِ!
لك أن ترسمَ درباً، شريطةَ ألاّ تسخرُ منك الخطواتُ..
الورقةُ هزَّت ذيلَها،
خلفَ السياجِ أطفالٌ تنادي(موطني)
زرعوا فأكلنا..كذباً
(أكلونا ومازالوا….).
أعرفُ رَساماً أدركَ اللعبةَ متأخراً،،
رسم نهراً نفقتِ الأسماكُ..
رسمَ صحراءً دفنتها الرمالُ
رسم قمراً بلعهُ الحوت.ُ.
رسم سنبلةً لوَّحت لهُ المناجلُ..
رسم وطناً قامتِ الحربُ
رسم القائدَ مُنح بيتاً وسيارةً..!
برأسٍ فارغةٍ تماماً إلا من وجعِها المستديمِ، صداعٌ بطعمِ النساء، بياضٌ قبل المشيبِ، غيمٌ جاء منسكباً، حلمٌ مبللٌ..!
الأحرفُ الصغيرةُ التي تقرأيها
براعمٌ صغيرةٌ في الصباحِ تنمو،
في المساءِ تغفو، عيناكِ سمادُ الحروفِ..!
شفتاكِ التي لاتأتي على شكلِ قصيدةٍ
أعاقبُها بالقبلِ..!
حبةُ بُنٍ سمراءُ قابلةٌ للطحن،ِ
لحظةُ أكتشفَ الربُّ السُّكرَ الزائدَ فيكِ
لعلها كانت حلمتيكِ..!!
من قال لكم مات أبي..؟
هذهِ أمي تُقسم ب (الحمزة أبو حزامين) أنها تُقمطُه بأحضانِها في المساءِ ، وفي الصباحِ يعودُ كوجهِ نبيٍّ..!
* هامش*
حرري صدر َ القصيدةِ،
فكّي جدائلَ العجزِ
تعبَ النصُّ من الوقوفِ
اغمزي للنجمةِ البعيدةِ
ولو بشقِّ رمشٍ
القمرُ شارفَ على الكسوفِ
يا ليلةً من ألفِ ليلةٍ
ياشهزادَ الشعرِ
خجلى تبكيكِ ألحروفُ.!
…. حيدر غراس..
العراق