كتب : أنيس الرافعي
حسن إغلان سارد عتيد قادم من دائرة اليسار الضائع المثخن بأمواس الجدل الدياليكتيكي، و أحد الناجين الكبار من لعلعة رشاشات الأحلام الكبيرة المخذولة و الشعارات الصاخبة الممزقة .
و هو حين يقدم على تدبيج قصصه و محكياته ، على تدبيجها بفمه فقط ، وهو حاسته الوحيدة الممكنة للخلق بعد ضرارته الأسيفة، يتعمد أن يتجول بخطوات واثقة و متناوبة داخل ثلاث حدائق غناء و متشابكة الأغصان هي: الأدب و السياسة والفلسفة.
نلفيها جميعها مضفورة في جديلة طويلة واحدة ، تتضام و تتضامن خصلاتها بمشابك غفيرة من العجائبية ، و السخرية، و الباروديا السوداء ، و قلب الأدوار و المعاني والمغازي ، و المفارقات اللاسعة، والالتقاطات المجتمعية الذكية .
ولعل من الخصيصات البارزة والفارزة لمناخاته القصصية ومداراته الحكائية الحاملة لبصمته الخاصة ، تلك التي لا تخطئها الذائقة المتمرسة أو حدقة العين اللاقطة، ما يمكن وسمه ب ” إوالية التماهي و التحوير ” .
فالمبدع /المثقف حسن إغلان ملاح عتيق و جبار في محيطات القراءة و المعرفة المستمدة من النظائر الكونية العليا ، ومن خضم الأمواه المتلاطمة لهذي اليموم يغرف موتيفاته و ثيماته و قضاياه القصصية الحارقة ، التي سرعان ما تتبدل إلى عنصر جوهري ذي لمسة شخصية في تخليق نصوصه، التي لاتكتم على الإطلاق ظلالها الإيديولوجية و نزوعها إلى الالتزام بقضايا الواقع .
وللتدليل على حجية هذا التخريج أسوق على سبيل التمثيل لا الحصر قصة ” حمار كافكا” من أضمومتة الأحدث ” مكتبة الشيطان “(2021) ، حيث تتراكم المتناصات المحيلة على أعمال فرانز كافكا و توفيق الحكيم و عزيز نيسين و لوكيوس أبوليوس صاحب كتاب ” تحولات الحمار الذهبي ” ، غير أن عملية استضمارها و إعادة تدويرها أفضت إلى إنتاج ظاهرة ” الحمرنة “، التي أقام عليها المؤلف معمار النص و نواته المركزية.
ظاهرة تحول ” تاحيماريت ” من إحساس بالغبن و الدونية و الصغار إلى مطمح بورجوازي جماعي براق . فقد تم الإعلاء من لغة الحمير ،و تسابق الكل وحدانا وزرافات لتعلمها عن ظهر قلب . الجميع أضحى يحلم بانمساخ أعضائه البشرية الأصلية إلى أعضاء حمارية مكتملة الذيول و الآذان، و يتطلعون بشغف إلى الترقي في مراتب الحمرنة على الشرعة الأفلاطونية من حمار نحاسي إلى فضي ثم ذهبي، كيما يتمكنوا من النط من نطاق دائرة اجتماعية سفلى إلى دائرة اجتماعية أرقى .
أما الخصيصة الثانية المهمة ، التي استرعت انتباهي كلما عاودت سياحتي المواظبة عبر الجغرافيا القصصية الوعرة و الممتعة لحسن إغلان ، هي ” حوارية القص و الفن و الجسد ” ، في إطار اختراق النوع الفني للقصة، و تلاقحه أو تخاصبه مع أسانيد أخرى ، و تلاشي الجدران الفاصلة بينه وبين إحالات مرجعية أخرى .
إذ تتوسع مروحة النصوص و التأويلات لتلامس حدودا وتخوما أخرى تنغتح بكرم غامر على كل من الرسم و الموسيقى و الرقص وغيرها من الفنون المكانية أو الزمانية ، لكن دائما في ترابطها الرمزي و الدلالي و الأنطولوجي مع مفهوم الجسد . الجسد المفهومي عينه ، الذي يستحيل عبر الشخصيات إلى صفحة بيضاء تنطبع عليها نجاحات هذي الفنون أو اخفاقاتها ، ممكناتها أو مستحيلاتها ، غبطتها أو أتراحها.
لنتأمل ما حدث لشخصية ” دمعة ” في قصة ” درس البيانو ” من المجموعة الحاملة لنفس العنوان (2013) . هذه الفتاة المتيمة بإيقاع الموسيقى القادر لوحده على مداراة مواجعها الكتيمة، كيف خاطرت بجسدها اليانع في اتجاه رقصة النار و الغيبوبة الكاويين المفضيين إلى النوم ، وكيف مارست ” الكتارسيس” كي تعقم دواخلها من درن الخارج و أوساخه بكحول هز الجسم وتحريكه على هدي أنغام الموسيقى .
و أختم هذي الشهادة المتواضعة ، بالالفات إلى خصيصة ثالثة وأخيرة ، أعدها من المقومات الجوهرية لكتابة حسن إغلان القصصية ، ألا وهي ” المغامرة اللغوية الفسيفسائية ” . مغامرة متعددة الطيوف مثل موشور ضوئي، مدروسة ومفكر فيها بإحكام متناهي الدقة ، تتأسس على ثنائيات من قبيل الدارج و الفصيح ،و الشفهي والكتابي ، و الصمت والكلام ، و اللسان والموت.
ففي متتاليته القصصية ” كتاب الألسنة ” (2012)، التي يمكن إدراجها ضمن ” حلقة القصة القصيرة ” بمعناها النقدي الأمريكي ، يقترن كل صنف من الألسنة بإهاب شخصية حقيقية أو متوهمة ، عادية أو أدبية ، ويحيل مرجعيا على طراز من الثنائيات الملمع إليها. في قصة ” لسان جدي ” يغدو صمت العشيقة وفقدانها القدرة على الكلام مرادفا للموت ، وفي قصة ” لسان مبتور ” يصير قطع اللسان بمثابة شهادة وفاة للشخصية التي حكمت عليها الأقدار بالانكتام مدى الحياة و اختصار الكينونة في مجرد حرف فقير هو ” جيم ” . لاجرم بعد هذا ، فكاتب متمرس مثل حسن إغلان لايحرث الكلام على عواهنه ، وإنما يمشي في اللغة..في شتى لغات القصة بحذاء راقص باليه.
الأمر ومافيه أو بالأحرى خلاصة القول وعصارة الكلام ، إن التجربة القصصية الفسيحة للمبدع الكبير حسن إغلان قمينة بالاهتمام والدرس والتكريم ، وكذا بإعادة تقليب طبقاتها الرسوبية المتراكبة ،و استغوار طبوغرافيتها الحكائية المتشعبة، كونها نتاج كدح إبداعي وازن و مفكر فيه مع سبق الإصرار والترصد الأدبيين. إننا في حضرة كاتب حقيقي و أمام مدوزن سرد من الطراز الأول و الرفيع جدا .