مادونا عسكر/ لبنان
“لا أطلب للمرأة المساواة بالرّجل لاعتقادي أنّها تفوقه سموّاً بقلبها. والنّظريّات الّتي ترمي إلى تسويتها بالرّجل تحول حتماً بينها وبين عالمها الخاصّ الّذي به- به وحده- تظلّ محلّقة فوق كلّ أفق يستطيع الرّجل في جدّه وعبقريّته أن يبلغه. فالمساواة هبوط لها، لا صعود.” (ميّ زيادة)
إذا كانت ميّ زيادة قد استحقّت أن تكون رائدة من رائدات النّهضة النّسائيّة العربيّة الحديثة، فلّأنّ ميّاً وعت أنّ ما للمرأة للمرأة وما للرّجل للرّجل. ولئن كانت ميّ على درجة عالية من الثّقافة، مطّلعة على تاريخ المرأة في الفترة الّتي سبقت سجنها، من تّصوّرات وعقائد انتزعتها من مكانها الحقيقيّ الأصيل، فهمت أنّ المساواة هو انحدار للمرأة من ذلك المكان الأصيل لا ارتقاء لها.
المساواة بين شخصين هي جعلهما متعادلين ومتماثلين. ما لا يحقّق صورة المرأة وذاتيّتها، لأنّها كما أشارت ميّ تفوق الرّجل سموّاً بقلبها. ولا ريب أنّ ميّاً مدركة للتّكوين العميق للمرأة المختلف عن الرّجل على المستوى الفكريّ والنّفسيّ والرّوحيّ، فكيف لها أن تماثل الرّجلّ وتتخلّى عن تلك السّمات الّتي لا يمكن للرّجل مهما فعل أن يبلغها؟ وبإشارتها إلى عالم المرأة الخاصّ تحدّد ميّ للمرأة ملامح حضورها في محيطها ومجتمعها بل في الكون بأسره. هذا العالم الّذي لا يمكن للرّجل أن يخترقه حتّى وإن نادى بتحرير المرأة وتثقيفها وتعليمها. فهو ينظر إلى الموضوع من خارج المرأة، ولا يدخل في تفاصيلها وتكوينها وتركيبتها. لذلك فميّ تقدّر مبادرة الرّجل أمثال المعلّم بطرس البستاني ورفاعة الطّهطاوي وقاسم أمين في المناداة بتعليم المرأة وتثقيفها، إلّا أنّها أدركت أنّ من يحرّر المرأة هي المرأة نفسها، وإلّا وقعت في فخّ قمعٍ من نوع آخر. تقول ميّ في محاضرة لها بعنوان “غاية الحياة” ألقتها في جمعيّة “فتاة مصر الفتاة”: “صاح قاسم أمين في القوم يهديهم، ولكنّه لم يفته أنّ تحرير المرأة في يدها أكثر منه في يد الرّجل”، فالمرأة تعرف حاجاتها العميقة وتتبيّن أزمتها المؤلمة الّتي من خلالها تطالب بحريّتها. لكنّ هذه المطالبة لا تثمر ولا تلقى وقعاً مؤثّراً، وقد لا تنجح إلّا إذا تمّ توجيهها بصرامة ووعي واتّزان حتّى لا تنزلق المرأة في مطبّات الفوضى والاستهتار. لذلك نرى ميّاً تحثّ المرأة لا على المطالبة بحقوقها وحسب، بل على إدراك واجباتها والتّمسّك بها وتطوير أساليب التّعامل فيها لكي تتحقّق حقوقها. فمن لا يعرف واجباته ويلتزم بها لا يستطيع أن يطالب بحقوقه. وهذه إشارة مهمّة لكون ميّ تعاملت مع هذا الموضوع إنسانيّاً أكثر منه أنثويّاً. وبهذا تكون قد تناولت حرّيّة المرأة بشكل أكثر عمقاً ورقيّاً.
في مقال لها عن “الفتاة المصريّة وموقفها اليوم” نُشر في صحيفة “السّياسة” تواجه ميّ بشدّة الصّحافة المتهكّمة على الفتاة والمنتقدة لها باستهتار فتقول: “إنّ موقف الفتاة أهمّ وأعسر من أن يتناوله المتشائمون بالتّشنيع والزّراية والتّنديد ورمي ابنة مصر الحديثة بالغلوّ في التّبرّج، والشّرود عن حدود الاحتشام، وإغفال اللّياقة والكرامة فيما خطت إليه من بسطة الحرّيّة. وموقفها أدقّ وأرفع من أن يغمره المدّاحون بذلك الصّنف الهلاميّ المائع من الثّناء الّذي يخيّل أنّه بضاعة “تحت الطّلب” بالجملة سواء أكان المطلوب منها بعضها، أو ما يختلف على صنفها كلّ الاختلاف؛ ففي الحالين إنّما يفسد من الفتاة ذوقها، ويعكّر عليها وجدانها، ويلتبس أمامها وضوح المعاني والأشياء، ويضاعف في تشويش نفسها الحائرة.” وفي هذه السّطور لغة شديدة القوّة، تنطلق فيها ميّ من داخل المرأة إلى خارجها، أيّ من دوافعها الشّخصيّة الكامنة في نفسها إلى المجتمع المحيط بها. وما انتقادها لهؤلاء المتشائمين والمسيئين للفتاة إلّا توجيه للفتاة نفسها في دعوة ضمنيّة لاتّخاذ مسار متّزن حتّى تتحرّر نفسها فلا تتشوّش. فمن جهة تواجه معها الانتقادات المتناولة سلوكها، ومن جهة أخرى تحمل المجتمع على إدراك تفاصيل هذا السّلوك لكي يتفهّم بدل أن ينتقد. فتضيف: “ابنة هذا الجيل كابنة كلّ جيل، لها عيوب ولها حسنات، وإن بدت العيوب مكبّرة لأنّنا نعيش على مقربة منها في حين ضربت بيننا وبين الماضي الحجب. وتشترك في تكوين هذه الميول عوامل شتّى: من وراثة، إلى وسط، إلى ألم، إلى سرور، إلى فرق بين عقليّة هذا الجيل وعقليّة الجيل الّذي تولّى أمره، إلى وحدة الفتاة بين نزعاتها وحاجاتها وحيرتها وسط قوم قلّ أن يعترفوا بأنّ لها شخصيّة غير شخصيّتهم وأنّها تعيش في زمن غير الّذي كانوا فيه فتياناً”. وهنا تكمن أهميّة إدراك كيفيّة نقل المجتمع من عقليّة إلى عقليّة متطوّرة تتيح له استيعاب الفتاة وتفهّم سلوكها وتوجيهه والولوج في تكوينها الذي تأثّر بالتّربية والمجتمع وتوعيتها على بناء ذاتها وفهم معنى حرّيّتها. فالانقلاب الحاصل في داخل الفتاة ينبغي ضبطه بالتّفهّم والتّوعية والاستيعاب والتّوجيه.
لذلك فالحرّيّة عند المرأة بحسب مي زيادة تتكوّن من عنصرين أساسيّين: التّعليم والعمل. التّعليم الّذي يسهم في تثقيفها وعقلنتها وارتقائها الفكريّ والعلميّ وتهذيب طباعها وتنمية ملكاتها ومواهبها. والعمل الّذي يحقّق حرّيّتها بمعناه العميق لا بالمعنى الّذي جنحت إليه المرأة فأغرقها بنوع من الفوضى. إذ إنّها حين غرقت في العمل، غالباً ما تخلّت عن واجباتها الأساسيّة كأمّ وزوجة ومدبّرة منزل. وتذهب ميّ عميقاً في هذا الموضوع لتشير بدقّة إلى عامل الوقت المهدور حتّى وإن نالت المرأة تعليمها. فالأوقات الّتي تقضيها دون عمل كفيلة بتحطيم قدرتها على التّطوّر والارتقاء. “فماذا تراها تصنع في هذه الفترة من الزّمن الطّويلة كانت أم قصيرة؟ بأيّ الأفكار وأيّ العواطف وأيّ الأعمال تراها تشغل ساعات النّهار والفراغ؟ وكيف تتصرّف في هذا الوقت حساسيّتها الوثّابة النّاضرة الفيّاضة؟”، التّعليم والعمل يسهمان في تكوين الشّخصيّة الإنسانيّة. فالتّعليم الّذي يهدف إلى استنارة العقول يكمّله العمل الّذي يطوّر هذا العقل ويمنحه خبرات عديدة تمكّن المرء من خوض غمار الحياة بعيداً عن التّفاهة والسّخافة والسّطحيّة والاهتمام بما لا ينفع.
بالمقابل تتحقّق حرّيّة المرأة بالنّسبة لميّ زيادة في واجباتها أوّلاً، فتقول:”يصيحون: علّموا المرأة لتستنير، علّموها لتكون حرّة، علّموها لتشعر بكرامتها ككائن إنسانيّ، علّموها لتتعرّف حقوقها فتخرج مسلّحة بها إلى ميدان الحياة الفسيح… وأنا أقول: علّموا المرأة فيكون لها شرف الرّجوع إلى داخل المنزل، ففي داخل المنزل الحرّيّة الحقّة والكرامة الإنسانيّة الحقّة، وانتصار الحقّ انتصار الواجب، وفي داخل المنزل ميدان الحياة الفسيح والعمل الأعظم الّذي يذيع النّور في بني الإنسان. إنّ المرأة الّتي لا تدرك عظمة المنزل- سواء أكان قصراً أم كوخاً- ولا تقدّر أهمّيّته وعذوبته ومبلغ تأثيرها فيه فتلك امرأة جاهلة ولو هي فازت بنصف دستة من الشّهادات الدّنيا والعليا والّتي هي بين بين!”.
إنّ ما رنت إليه ميّ حرّيّة مسؤولة وواعية ومتّزنة، فلا حرّيّة من دون هذه العناصر الثّلاثة وإلّا استحال حال المرأة فوضويّاً مدمّراً. ولا شكّ أنّ في قولها توجيهاً للمرأة للحفاظ على مقامها كزوجة وأمّ وبذلك تماهٍ لصورتها مع الرّجل. فالعودة إلى داخل المنزل عودة إلى علاقة أفضل مع الرّجل، تتّسم بالوعي والتّبادل الفكريّ والعاطفي لكن على مستوى ندّين لا يختلف الواحد عن الآخر إلّا بالتّركيبة الإنسانيّة. المرأة الحرّة هي تلك الّتي تجيد إدارة محيطها وتجيد التّأثير فيه من خلال تعاطيها معه. ولقد أشارت ميّ في مكان آخر أنّ المرأة الغارقة في العبوديّة تربّي جيلاً من المستعبدين. وبالتّالي فحريّة المرأة مرتبطة بحرّيّة الأجيال القادمة ولا ترتبط بها فقط.
إلّا أنّ ميّاً لم تكتفِ بالاهتمام بتحرير المرأة، وإنّما انتقدتها بهدف استفزازها للعودة إلى واجباتها لتؤكّد حرّيّتها الحقّة. فقد آلمها أن ترى الأمّهات منشغلات عن أطفالهنّ ومنصرفات عن مسؤوليّاتهنّ: فخاطبتها قائلة: “صغيرك ينادي فلماذا لا تجيبين، يا أمّ الصّغير؟ لست بالعليلة لأنّي رأيتك منذ حين تميسين بقدّك تحت قبّعتك والجواهر تطوّق العنق منك. أنت صحيحة الجسم، فلماذا لا تسرعين؟ ألا تحرقك دموع الطّفل الّذي لا ترين؟ ألا يوجعك الشّهيق الّذي لا تسمعين؟ عودي من نزهاتك الطّويلة وزياراتك العديدة، وأحاديثك السّخيفة، عودي واركعي أمام الصّغير واستسمحيه عفوا.” (بكاء الطّفل- المؤلّفات الكاملة لميّ زيادة- تحقيق سلمى الحفّار الكزبري- ص 306)
يلفت د. جوزيف زيدان النّظر في “الأعمال المجهولة لمي زيادة” إلى قلة كتابة ميّ حول تحرير المرأة إذا قارنّاها مثلاً بباحثة البادية الّتي رغم قصر عمرها، كتبت مجموعة كبيرة من المقالات عن قضيّة المرأة. كما يشير إلى أنّ تلك الكتابات الّتي كتبتها ميّ حول المرأة تتّسم بالاعتدال والتّعميم وتجنّب الخوض في أمور حسّاسة مثيرة للجدل كموقف الإسلام من المرأة. ويعيد ذلك إلى حذر ميّ من الخوض في هذه المواضيع الدّقيقة لأنّه تمّ انتقادها بشدّة من الأديب المصري محمد لطفي جمعة عام 1922 بسبب بعض آرائها. إلّا أنّني أرى ميّاً امرأة كتبت الكثير في القليل الّذي بين أيدينا، وإذا صحّ أنّها توخّت الحذر فلأنّها امرأة لا تحبّ المناداة المتهوّرة والصّراخ الفارغ، وإنّما تسعى إلى بلوغ هدفها بذكاء حادّ. فالقوّة لا تكمن في التّعرّض لمواضيع مثيرة للجدل بقدر ما تكمن في القدرة على إيصال الفكرة واستفزاز العقل ليبحث فيها وعنها. ومن يقرأ كتاب ميّ زيادة عن ملك حفني (باحثة البادية) يهيّأً إليه أنّ ميّاً مازجت صوتها بصوت باحثة البادية وأكّدت آراءها وتطلّعاتها بما يخصّ المرأة. وبعملها الدّؤوب وتفاعلها الحقيقيّ مع الحركات النّسائيّة وترصّدها رسائل القرّاء في باب أوجدته في القسم النّسويّ الاجتماعي من “السّياسة الأسبوعيّة” تحت عنوان “خلية النّحل”، لتمكين القرّاء من طرح أسئلتهم وتولّي آخرين الإجابة عنها، استحقّت ميّ أن تكون من رائدات النّهضة النّسائيّة والإنسانيّة. والأهمّ أن من يقرأ اليوم من السّيدات كتابات ميّ زيادة عن تحرير المرأة يعيد النّظر في أمور كثيرة بلبلت المرأة وشوّشت تفكيرها ونفسها ولعلّها أغرقتها في الفوضى دون أن تشعر. ما يعني أنّ حضور ميّ اليوم بحجم حضورها في الماضي، وقوّة تأثيرها في تكوين المرأة يعيد التّوازن إلى من فقدن توازنهنّ ويجدّد فكر من اعتبرنَ أنّ الحرّيّة خروج عن الواجبات وإفراط في الأنانيّة وغلوّ في الاهتمام بالظّاهر.
“المرأة امرأة قبل أن تكون حسناء”، تقول ميّ. ولفظ امرأة ينطوي على معانٍ أسمى وأجلّ وأعظم وأعمق من ظاهر يحدّد ملامح الحرّيّة أو مساواة ملتبسة تدخل المجتمع والأجيال في فوضى مدمّرة. لقد كانت ميّ صاحبة فكر عميق تمسّ صلب المسألة النّسويّة بوعي متقدّم ورؤى ناصحة قبل أن تشيع تلك الحركات ويختلط الحابل فيها بالنابل، ويمتزج الوضوح بالغامض.