الإهتمام بالآخرة وانهيار المجتمع
كان الفقهاء ورجال الدين قد شنوا حربا لا هوادة فيها على العقلانيين من علماء الطبيعة والمنطق والفلسفة، مثل ابن سيناء والخوارزمي وجابر بن حيان والكندي والفارابي وابن رشد، وجماعات كالمعتزلة وإخوان الصفا، الذين كان لهم رؤية في بناء الدولة بانها تعتمد على الإقتصاد وليس الدين، وهذا مفهوم حديث، متهمين اياهم بالزندقة والخروج على تعاليم الدين، ومجانبة رجال الدين، والخروج عن مفاهيم الشرع، ودراما الحياة والموت، ولعل هذه المعركة التي دامت طويلا كانت تنبع من حرص رجال الدين للسيطرة على زمام الثقافة وحركة المجتمع، والحظوة عند الحكام، وأيضا بسبب اختلاف المنظور العقلاني عن المنظور الديني، وبالتالي التعامل مع قوانين الحياة، وثالثا حاجة الأبحاث الطبيعية إلى جهد فكري ومادي ورعاية من حكام متنورين والعمل بالتجربة والخطأء، بينما لا يحتاج الشيخ غير مرويات حفظها، مرددا ما تم تسطيره سابقا، وما من جديد، والكلام بالمغيبات التي لا تلزمه الإثبات، وهذا كله موجه لأمة تغرق بالأمية، وتستمتع بالأساطير والمعجزات وأعاجيب الخيال، والإيمان التام بأن عملنا مقتصر على العبادة لله الذي يكفل لنا رزقنا وأمننا وانتصاراتنا وتفوقنا وعزتنا، ويكفينا جهد الحصول على ما نريد، وما لنا إلا ان ندعوا الله فيلبي لنا ما مطالبنا.
لكن هذة المفاهيم أسلمتنا إلى سلطة السلاجقة الذين سيطروا على الخلافة في بغداد، وإلى اولاد (مليكشاه) سلطان السلاجقة يقتسمون بلاد الشام والعراق وإيران بعد وفاته، والخليفة في بغداد عساه يحكم على جواريه وخدمه، والفقهاء لا يرون في ذلك انهيارا للمجتمع، ولا يرون من واجبهم وقف هذا الإنهيار، بل حث الناس على العبادات والدعاء والإستغفار لعلهم يدخلون الجنة.
وحينما دقت سنابك الحملة الصليبية الثانية ابواب الشرق، كنا قد ارتحنا من هؤلاء العقلانيين الذين يرون الحياة مبنية على التفكير والعمل، وابقينا على الذين يأمروننا بترك الحياة وطلب الآخرة، واكتساب النصر والرزق بالدعاء، وها نحن قد وجدنا ان (تتش) ابن مليكشاه الذي ورث سوريا من ملك أبيه، قد تفتت إلى دويلات هي دمشق وحمص والمرقب والعاصي وطرطوس واللاذقية وبيروت وشيزر وبيت المقدس، وكان صاحب كل دويلة خصما للآخرين، ما جعل 800 فارس من الصليبيين يمرون بسلام عبر هذه الدويلات إلى بيت المقدس، بعد ان دفعوا لكل دولة ضريبة المرور وكأنهم حجاج، وتزودوا بالطعام والشراب والحراسة المرافقة، ودخلوها يوم 14/7/ 1099وانتم تعرفون بقية المشهد وما حدث من مذابح.
ورغم أن صلاح الدين كان عقلانيا في نهجه السياسي، واستعداده للمعركة، إلا ان خلفاءه من الأيوبيين وكبار الفقهاء في عهده كابن تيمية والعز بن عبد السلام وابن حجر العسقلاني، وابن القيم، وغيرهم لم يدركوا هذا التحول، وأصروا على تصويره برجل شديد التقوى مؤكدين على ان العبادة سبب النصر، وليس لتحريك الطاقة الإنسانية لتغيير الواقع وتحسين الحياة البشرية، لذلك استمر النوم وجاء التتار والمماليك والعثمانيون على هذه الأمة التي تنتظر الموت لتتخلص من هذه الحياة.
وجاء القرن العشرين وجاء معه من يرى ضرورة تجديد فهم الدين ليكون وسيلة للتفدم ومواكبة العصر، كرفاعة الطهطاوي والأفعاني ومحمد عبدة ورشيد رضا وغيرهم، إلا ن مشروعهم واجه معاداة شرسة من الأزهريين والجماعات الإسلامية اكانت دعوية او اسلام سياسي أوسلفية او اناس عاديين، ويعتبر ابن تيمبة الموئل الفكري لجميع الحركات