قصص قابلة للتعميم
سليم النجار
بناء معمار القصة: وصف الحالة النفسية للشخصية المعمارية، وبؤرة الأحداث..
“ثم همهمت عجوز من المارّة بكلمات غير مفهومة، فالتفت إليها الناس الذين بدأوا بالتجمّع ولم يلتقطوا سوى عبارة “الناس فقدت عقلها وانجنّت” “.
اعتمد القاصّ على ضمير الاستغراب والدهشة المتماهي كليًا مع السارد، مما يتيح لنا مناقشة الكاتب وليس الشخصية القصصية حول الدهشة ومدى دقّتها لوصف المجتمع وعلاقته بالحدث، ومن غريب المصادفات أن هذه الدهشة تصدق وتأتي متطابقة مع الوقائع الحياتية، كما حصل يحصل في القصة التي حملت عنوان “حادثة الأيام السعيدة”.
ضمير الدهشة أتاح للسارد إمكانية ملامسة دواخل الشخصية، ونقل توتّرها النفسي الداخلي إلى الخارج، مما ساعد في عملية الاستحواذ على القارئ وجعل البطل في قصة “نافذة هروب” قريبًا منه، كما أنّ اتحاد الشخصية المحكي عنها مع شخصية القاص ساعد على إقناع المتلقي بواقعية الحكاية والتفاعل معها..
“وأنا أهبط درجات السلم، تخيّلتها مشروع مؤجل كحياتهم، الأدراج غير مبلّطة بعد، والجدران لم تطل، وعندما قابلت حيدر على الرصيف حاول إقناعي بالعودة، فاخترعت مواعيد وارتباطات عديدة ووعدته بأن نبقى على اتصال”.
تنحو قصص خالد سامح باتجاه الداخل النفسي للشخصية المحورية فيها، فالدهشة لا تتعلق بالآخرين، والصوت المنادي هو نداء المؤلّف..
“الركّاب صامتون كمتّهمين في القفص ينتظرون النطق في الحكم، وأنا الانتحاري الذاهب إلى عملية لم يفكر ابدًا في نتائجها، لن أفكر..”
يكشف القاصّ بعد جهد وعناء عن صاحب الصوت، متكبّدًا رحلة بحث مضنية بين السؤال والحوار الذاتي، رحلة شبيهة بقصة “المحارب القديم”..
“صمتت هالة على الكنبة المقابلة لتشرب القهوة، الصور العسكرية المتناثرة على الجدران تشعل ذاكرتها شمعة شمعة، تثير في داخلها مشاعر متناقضة من الرهبة والحنين”..
استخدم القاص تقنية المقاربة بين الحاضر المأزوم والحنين للماضي، فصوته هو الذي يخاطب، وذلك تخلّصًا من وضع يهرب من مجابهته..
نجح القاصّ في التمويه وإخفاء الصوت، لكنه كشف عنه من خلال قراءة إشارات غير مباشرة، ليعلم القارئ بعد بذل جهد ممتع أن هذا الصوت هو صوت السارد المشارك في مسروده، كما نقرأ في قصة “حدث باليوم الأخير”:
“عرف من لهجته أنّه غريب، وقام شاكرًا له لطفه ونبله، وبدت علامات التعجّب على وجهه، فقد ظنّ طوال عمره أن جميع الأثرياء أشرار ومتكبرون ولا يمكن لهم الاعتذار عمّا يبدر منهم من أخطاء تجاه الفقراء”.
اعتمد الكاتب في نصّه على السرد دون التركيز على الوصف إلّا ما قلّ منه، مع أن الحالة تسمح بذلك، وبشكلٍ خاص في الوضع النفسي..
“أمّا العيون التي تعلو تلك الشفاه المبتسمة، فهي حالة خاصّة وفريدة، إنّها تشبه العيون الكورية والصينية والتايوانية وغيرها في شرق آسيا، لكن ما يميّزها هو ذلك التأرجح الدائم بين الأمل ورماد هيروشيما وناكازاكي المنبثق منها باستمرار رغم كل السنوات التي مرّت على الكارثة”.
اقتصاد في اللغة وابتعاد من الإسراف فيها، مع تجنّب الإسهاب في الوصف واختيار موفّق للدوال، والقلق، والاضطراب، والسهاد، وقصدية واضحة في عدم الاتّكاء على غواية اللغة، مع التركيز على دراميّة الحدث الذي بدأ متوترًا من بداية السرد الوصفي إلى خاتمة قصة “موقف عادي جدًا”..
“ردّ الرئيس باستهزاء: هل لديك تقرير طبي يثبت ذلك؟ فأجاب بالنفي، عندها قال الرئيس وهو يلبس معطفه ويهم بالمغادرة: إذن لا يمكنك تقديم شكوى، وغادر على عجل تاركًا إيّاه وحده في وسط الغرفة المتجمدة”..
وكانت خاتمة القصة على الشكل الآتي:
“الأستاذ عبد السلام عبد الله الكاتب المسرحي، يا لها من صدفة رائعة، تبادل الجاران ضحكة مجلجلة فرضها وأكملا السهرة معًا”..
قصة نافذة هروب الصادرة عن دار اليازوري/ عمان عام ٢٠٠٩، تضعنا أمام شخصية قصصية منطوية عازفة عن الحياة، متقوقعة على ذاتها، مشغولة بمشاكل وهموم الآخرين تاركة مشاكلها تتراكم في داخلها إلى أن تعالى صراخها الداخلي..
“ثمّة صوت كان يهمس في أذني وأنا أفتح الباب وأغادر، لم تنجز أي شيء…مشكلتك لن تُحَل”
نافذة هروب فتحت آفاق رحبة وأشكال مختلفة لنقل الأفكار والتواصل مع الآخرين، وتبقى القصة بأشكالها المختلفة، أكثر قدرة على الوصول إلى دواخلنا والتأثير فيها، وذلك لما تحمله من متعة جمالية، ولذة معرفية بنقل الخاص إلى العام.