أنَا جَنُوبِيٌّ؛ أنَا شِمَالِيٌّ… أنَا يَمَنِيٌّ؛ بحثًا عَنِ الوطنِ في فُسَيفساءُ الذّاتِ!
حِيْنَ أُعلنُ انتماءاتِي المُتعدّدة: جنوبيٌّ …شماليٌّ، عدنيٌّ ومن بني حطام، مسلمٌ وسنيّ، عربيّ… تُونسي يتهمونني بسحقِ هُويتي في وعاء عديم الملامح… وهم مخطئون في ذلك… إنّ هذه التعدُّديّة ليست ذوبانًا، بل هي مُركّبٌ فريدٌ يترسخُ بالامتداد لا بالانكماش. إن الإصرارَ على تفتيت الإنسانِ إلى صناديق ضيقة هو آفة العصر هذا!…
فِيْ عالم لا يزال يُقاد بهاجس التماثل، ننسى أن جوهر الحياة يكمن في الاختلاف؛ فـكلُّ الناسِ ليسوا متماثلين وعلينا أن ندرك أن كلّ يمنيٌّ يختلفُ عن اليمني الآخر، وشبهه… وأنّ جغرافيا الروح أشد تعقيدًا من جغرافيا الخرائط… فالاختلاف بين الشمال والجنوب هو حقيقة، والاختلاف بين أبناء الجنوب/ الشمال الواحد حقيقة أخرى. لكن الهُويّة الحقّة لا تتأكد بالتماثل، بل بـ (كسور الذات) المُتفردة.
كَمْ عَددُ أمثالي الذين يشاطرونني هذه العناصر المتناثرة التي شكّلت تصميم هويتي؟….. كثيرون!، وربّما لا أحد. هذا التداخل بين الأصول والثقافات والمنابت يمنحني قرابة واسعة مع البشر أجمعين، لكنه في تجمعه يمنحني هويتي الخاصة التي لا تختلط بغيرها… كل إنسان، دون استثناء، هو مُركّب وفريد ولا يُستبدل.
إنّ هذا البلد، الذي نُقتاد فيه باستمرار إلى التساؤل عن أصولنا ومكانتنا تحت الشمس أو في الظل، يفرض علينا مراجعة الذات؛ لكن الغريب أنّ الهوية لا تتأكد بالانكماش، بل بالامتداد… كلما كانت الانتماءات التي أحملها معي عديدة، كلما ترسخت خصوصيتي.
قَدْ أُشاركُ كلّ كائن حي انتماءً مشتركاً ما، ولكن لا يوجد كائن في الكون يشاطرني كل انتماءاتي. تكفي حفنة من عشرات المعايير التي يمكنني أن أعرضها لتثبيت هويتي الخاصة بوضوح، هويتي المختلفة حتى عن هوية ابني أو والدي؛ فـكلُّ شخص دون أي استثناء يتمتع بهوية مركبة، ويكفيه أن يُطرح عليه بضعة أسئلة ليستخرج كسورًا منسية وتشعبات لا شك فيها وليكتشف أنه مُركّب وفريد ولا يُستبدَل.
هذه التركيبة الفريدة تتجلى في جغرافيّتي الشخصية؛ هويتي نُسِجت من ذكريات حي الشيخ عثمان الفقير، ومدرسة ردفان/ ميفعة/ عثمان عبده، ومن جيرتي الحضارم واللحوج ويافع وأبين وذمار؛ إن هذا المزيج، الذي لا يُنسى في ذاكرة أيامي، هو ما يشكل هويتي، ولا يجوز إنكار أي جزء منه.
أن أكونَ جنوبيًا وتكون أصولي من الشمال، هذه إحدى التناقضات الأساسية التي شكلت هويتي وميزتي، والتي تأزمت واشتعلت بعد عام 1994. نعم، نحن جيل تداخلت جيناته بين الشمال والجنوب، وهذه هي هويتنا التي لن نتنكر لها.
لقد سئمتُ من ادعاء التجميد؛ لقد سئمت من هذا الادعاء الذي يريد تجميد الهوية… فالتنكر لجزء من الذات هو تنكر للوطن … هذا التصنيف القسري الذي يتجاهل أن الانتماءات المهمة تتغير مع الزمن وتغير التصرفات بعمق… إنني أفخر بهويتي المركبة؛ فالتنكر لجزء من الذات هو تنكر للوطن فالرجل الذي كان بالأمس وطنيًا/ يمنيا حتى النخاع، قد يجد نفسه مضطرًا اليوم لتقديم انتمائه العرقي أو المذهبي أو حتى السياسي، عندما يحل عليه قمع السلطة ويشعر بالتهديد والاضطهاد…
والحقُّ يُقال: أنّ الشمالَ هو من نحت وصاغ هوية الجنوب؛ خاصة لمن تعرضوا للاضطهاد والإقصاء، ومن قيل لهم: “خليك في البيت”. كم كنت أرثي لحال الشاعر الفذ صديقي عبد الرحمن إبراهيم (أبو إلزا).. رحمة الله تغشاه.
كما لا ننسى أن الصراع الدموي في السبعينات والثمانينات بين الجنوبيين أنفسهم يشدد على حقيقة أن التراتبية بين العناصر التي تشكل الهوية ليست ثابتة، بل تتغيرُ مع الزمن وتغير التصرفات بعمق.”
لقد وحدتنا الثقافة يومًا؛ فما زال الجنوبيّ الضالعي يعشقُ أيوب طارش والشمالي الصنعاني يُفضلُ أبوبكر سالم بلفقيه… وأنا أحبهما الاثنين… هذا التبادل الفني هو شهادة على وطن كامل لم يَمُت.
أنا أفخر بهويتي المُركّبة وأرفض التخلي عن أيّ جزء منها. جدوا لي وطنًا اسمه اليمن! لن أتنكر له. فالهوية ليست مرآة جامدة، بل هي عملية حية دائمة التشكّل تتأثر حتى بالعوامل المناخية والطقس والقدر.
يبقى السؤال معلقًا كالقضاء: هل سيكون مستقبلنا مستقبل آمالنا، أم مجرد استمرار لكوابيسنا؟
أنا لن أتخلى عن هذا الوطن أبدًا… جدوا لي وطناً اسمُهُ اليمن! …. سبتمبر المجيد… تونس الخضراء