يبدو المشهد كأنه انفجار في معبد قديم؛ كل الأصنام تهشّمت، لكن الكهنة لم يختفوا، فقط بدّلوا ملابسهم. واحد يلبس معطف الفيلسوف، وآخر يدعي دعم قضايا المرأة، وثالث يعلن تحرره من كل دين، ورابع يجلس في الظل يصفق للفائز. الجميع يزعم أنه ضد السلطة، بينما في العمق — كلهم رجال دين، يقدّسون أصواتهم كما قُدِّس النص قديمًا.
يتحدث من يدعي التنوير عن العقل وكأنه وحي جديد، ينظر إلى الناس من علياء المعرفة، كأن الوعي ميراث خاص لا يحق للعامة أن يلمسوه. يكتب بلغة الرفعة، ويبتسم بتسامحٍ أبويّ وهو يحتقر من يخالفه. يعظك باسم الحرية، لكنه أول من يحرمك منها إذا لم توافقه الرأي. يريد أن يخلّصك من الوهم، لكنه لا يدرك أنه كاهن آخر في معبد أكبر، معبد الأنا التي تظنّ نفسها خلاص البشرية. مدعي التنوير الذي يتصور أنه كسر قيود الدين، لا يحررك، بل يستبدل بإله جديد اسمه “أنا الأعرف”.
النسوية التي وُلدت لتحرّر المرأة من سلطة الرجل، صارت في بعض وجوهها أسيرة جديدة له. تستنجد به في معاركها الشخصية، تستقوي بوجوده لتثبت ضعفها، أو تستعمل غضبها لتصفية حسابها معه لا مع البنية التي صنعته. تصرخ: “أنا حرة!”، لكنها تطلب من رجلٍ آخر أن ينوب عنها في معاركها الشخصية. تلعن استخدام جسد المرأة وتستخدم جسدها لتطويع رجال يتصدون للآخرين بدلا منها، أو تلك التي تخلط بين الثورة والانتقام، بين الوعي والوجع، فتتحوّل قضيتها الكبرى إلى مسرحٍ صغير لحكاية حبٍّ فاشلة أو انتقامٍ مؤجل. إنها لا تدرك أنها بذلك تخون المعركة الأصلية، لأن الحرية لا تُستعار من مجتمع فاسد، ولا تُستردّ بسلاحه. ومن تحارب الذكورية بذكورية معكوسة، إنما تزرع بذرتها في التربة نفسها التي ادّعت أنها تريد اقتلاعها وتتخلص هي والرجال من رواسبها.
ويأتي من يزعم أنه ترك الأديان ليبحث عن الحقيقة، فإذا به لا يبحث عن الحقيقة بل عن إذنٍ بعدم المحاسبة. يقول إنه تحرّر من الأديان، لكنه لم يتحرّر من نفسه، بل تخلص من أي وازع يمنعه عن الانزلاق إلى ما هو أدنى من الحيوان. يحدثك عن الفلسفة، ثم يبرّر ميله إلى القُصّر أو الدفاع عن بيدوفيلي باسم “تجربة الحرية”، يتكلم عن النسبية، فيحوّلها إلى غطاء للانحلال، يتشدّق بالعلم وهو يعيش غريزةً لا ضمير لها. هذا النوع من “اللادينيين” لا يهاجم الأديان لأنه تجاوزها، بل لأنه يريد أن يعيش دون وازع ولا مسؤولية، يريد أن يفعل ما يشاء ويسمّيه عقلًا، يريد أن يتخفّى من نفسه باسم الحرية.
ثم يأتي الصامت، ذلك الذي لا يتكلم أبدًا. يجلس على الرصيف يتفرج على مواجهات الآخرين وكأنها مسرحية مجانية. لا يملك رأيًا، لكنه يملك ذكاءً مصلحيًا عجيبًا، ينتظر من سيفوز ليمدحه، ومن سيسقط ليدّعي أنه كان يعرف النهاية من البداية. لا يشارك في أي شيء، لكنه يراقب كل شيء، يعيش في المنطقة الرمادية، حيث لا يخسر أحدًا ولا يكسب أحدًا، لكنه دائمًا مستفيد. ذلك الصامت ليس محايدًا، بل متواطئ ببرود، يغذي الخراب بصمته كما يغذيه الداعية بخطبته.
كلهم يوزّعون الغفران، كلٌّ بطريقته. رجل الدين يمنحه باسم الله، ومدعي التغيير يمنحه باسم العقل، والنسوية الغاضبة أو المتلاعبة تمنحه باسم الجرح، واللاديني يمنحه باسم الحرية، والصامت يمنحه باسم الذكاء الاجتماعي. لكن الجوهر واحد: السلطة. السلطة على العقول، والمشاعر، والمعنى.
كلهم يريد أن يكون المحرّم والمحلّل، أن يقرر ما هو صواب وما هو ضلال، أن يتكلم باسم الوعي بينما يمارس الوصاية ذاتها التي هاجمها، ويحميها بأبشع سقوط أخلاقي.
لقد تغيّرت الكلمات، لكن لم يتغيّر الإنسان. الخطاب واحد، الصوت واحد، والنية واحدة: “أنا أعلم… أنا الأحق بالعربدة … أنا المركز.”
كلهم رجال دين، وإن اختلفت معابدهم. واحد يرفع المصحف، وآخر يرفع كتاب نيتشه، وثالث يرفع راية النسوية، ورابع يغطي عهره بعاهر أخر، وخامس يرفع صمته كأنه حكمة. لكن حين تسقط الأقنعة، يبقى السؤال الوحيد الصادق في وجه الجميع: من منكم لا يريد أن يكون إلهًا؟
آفاق حرة للثقافة صحيفة ثقافية اجتماعية الكترونية