منذ فجر التاريخ والناس يتعلم بعضهم من بعض. فلكل أستاذ طلابه ومريدوه، ولكل تلميذ وطالب علم أساتذته وأشياخه. وقد استمر الحال إلى عهد قريب، فلو نظرنا إلى الرعيل الأول من الأدباء في المملكة وغيرها من الدول العربية؛ لوجدنا الواحد منهم يتعلم على يد من سبقه ويعترف له بأستاذيته، سواء أكان بتعليم مباشر عن طريق حلقات العلم والتدريس أم بطريق غير مباشر من خلال قراءاته لإنتاجه. هل وجود المدارس والجامعات قضى على هذه الظاهرة؟ وهل يمكن أن تغني المدرسة والجامعة عن التتلمذ المباشر وغير المباشر على أيدي المختصين؟ قد يكون هذا صحيحا لو أن كل ما يتعلمه الطالب من أستاذه أو شيخه هو المادة العلمية، لكن الصحيح أنه كان يتعلم ما هو أهم من هذا بكثير.. إنه يتشرب منه أخلاقه وأدبه وسلوكه وتصرفاته وتعامله مع غيره ممن هم أكبر منه علما وقدرا وممن هم أقل شأنا. إنه يتخذه مثالا يحتذيه ويستشهد بأقواله وأفعاله. وسيعترض معترض بأن معلمينا اليوم ليسوا بهذا المستوى ليُقتدى بهم ويستفاد من سلوكهم، فضلا عن أن بعض المواد مواد نظرية لا تحتاج إلى أكثر من استظهار فلا مجال للتتلمذ على يد المعلم. وسأوافقه الرأي إلى حد ما، لكن ماذا عن العلوم التي هي أشبه ما تكون بالصنعة؛ تحتاج إلى دربة أكثر مما تحتاج من حفظ للقواعد؛ كالخط والعروض والكتابة الأدبية بكافة أشكالها.. إنها أشبه ما تكون بالحرف والمهن. وإذا كان التشبيه صحيحا – وإخاله كذلك – فما بالنا نجد الصبي يتعلم على يد معلمه حتى يتقن المهنة ويصبح معلما في حين أن من يريد أن يصبح كاتبا أو شاعرا يربأ بنفسه عن ملازمة معلمه والتدرب على يديه؟
هل يكفي أن نقول إن الإبداع موهبة، وإن من يملك موهبة لا يحتاج تعليما ولا أنموذجا؟. غير الموهوب لا يمكن أن يصبح أديبا سواء أتعهده معلم أم لم يحظ بمعلم، وسواء أطالع الكتب والمجلات أم لم يطالعها. ومما زاد الطين بلة في أيامنا هذه تفشي وسائل التواصل الاجتماعي، لأنها لا تقدم الأنموذج الذي يمكن اقتداؤه، فمعظم من يكتب – من الذين لم يشتد عودهم – يريدون أن يصبحوا كتابا وشعراء وأدباء دون أن يقرؤوا، وحتى لو أراد أحدهم أن يقرأ فمن النادر أن يجد في صفحات التواصل الاجتماعي – التي يتابعها وليس كلها – إلا نماذج هزيلة لا تعلم ولا تثقف ولا تدرب. ودونكم صفحات (تويتر) و(الفيسبوك) والمجموعات (الواتسية) تابعوها لتجدوا أنها تخلو من النقد تماما، ومن رأي الموجه، ولتجدوا أن التعليقات والإعجابات متبادلة؛ بمعنى أن لا أحد يضع علامة إعجاب بنص أو يعلق عليه إلا لمن يضع علامة إعجاب بمنشوره، أو يعلق عليه. بل إن تبادل الإعجاب والتعليق أصبح هو الضامن للبقاء في دائرة الأصدقاء في هذا العالم الافتراضي، وأن من تسول له نفسه إبداء الرأي الصريح، أو عدم ترك تعليق حسن أو علامة إعجاب فإن مآله الحذف من قائمة المتابَعين، وربما الحظر لاحقا!
ولأنه لا معنى لوجودك في صفحة التواصل الاجتماعي دون أن يكون لك متابِعون تحظى منهم بدعم معنوي – على شكل تعليق أو إعجاب – فإنك مضطر لأن تلاحق منشوراتهم، وتمهرها بالإعجاب والثناء على شاكلة (أحسنت) و(أجدت) و(لله درك) و(لا فض فوك) ولو لم تكن مقتنعا في قرارة نفسك بأنها تستحق!.
هل تصورتم كيف سيكون الأدباء القادمون خريجو وسائل التواصل الاجتماعي؟!