مسعود عمشوش
بفضل ظهور الحواسيب والأقمار الصناعية والانترنت ومختلف التطورات التكنولوجية التي نشهدها اليوم، وتحديدا تلك التي مهدت للانتقال إلى الفضاء الرقمي، يشهد الإعلام بمختلف قطاعاته ومكوناته تحولات جذرية نتجت عنها ثورة معلوماتية هائلة. فبفضل الإنترنت والبث الفضائي أصبحت المعلومات تنتشر بشكل واسع عن طريق الحاسبات الشخصية والهواتف التي سحبت البساط من تحت الإعلام الورقي التقليدي.
ونتج عن ذلك ما يُسمى اليوم بالصحافة الالكترونية أو الرقمية، التي تُعرَّف بأنها مجموعة الصحف والمواقع التي يتم إصدارها ونشرها على شبكة الإنترنت، سواء أكانت هذه الصحف نسخا أو إصدارات الكترونية لصحف ورقية مطبوعة أو موجزا لأهم محتويات النسخ الورقية، أو جرائد ومجلات الكترونية ليست لها إصدارات ورقية. وتتضمن الصحافة الرقمية مجموعة من المواد الإخبارية والقصص والمقالات والتعليقات والصور والخدمات المرجعية. كما تضم الصحافة الرقمية تلك الصحف أو المجلات الالكترونية المستقلة، أي التي ليست لها أي علاقة بصحف ورقية مطبوعة.
واليوم تحوّل معظم القراء إلى هذا النمط الجديد من الصحافة التي خلقت مفاهيم وأخلاقيات وقيما جديدة للإعلام، وغيرت قواعد النشر والقراءة بشكل كبير. فاليوم أصبح الإنسان يقضي ما يقارب الثماني ساعات يوميا في متابعة أموره الحياتية والأخبار على أجهزة القراءة الرقمية، وليس من خلال تصفح المجلات والجرائد كما كنا نفعل حتى نهاية القرن المنصرم. وتتميز الصحافة الإلكترونية بعدد من الخصائص منها: الآنية والمباشرة والتنوع والمرونة والتفاعلية.
وكان لابدّ للإعلام الثقافي، مثل مكونات الإعلام الأخرى، من مواكبة تلك التطورات التكنولوجية التي نشهدها اليوم، وتحديدا ما يتعلق منها بالانتقال إلى الفضاء الرقمي. فقد أحدثت شبكة الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعية تغييرات جذرية في عالم الصحافة بشكل عام، وفي الصحافة الثقافية بشكل خاص. واليوم لم يعد هناك عرض مسرحي أو مهرجان أدبي أو حفل موسيقي لا يتم بثه مباشرة. ولم يعد بإمكان الصحفيين الثقافيين البقاء على هامش الشبكة والثقافة الرقمية، لذلك من الضروري الإلمام الجيد بما يمكن أن تقدمه شبكة الانترنت إذا لديك الرغبة في تكريس نفسك للصحافة الثقافية والبحث عن مؤهل مناسب في هذا المجال.
والمقصود بالصحافة الثقافية الرقمية ذلك النشاط الإعلامي والصحفي الذي يركز على المحتوى الثقافي والفني، ليس فقط في مواقع الصحف والمجلات، لكن كذلك في منصات التواصل الاجتماعي. وقد عرف الأكاديمي عدنان بومطيع الصحافة الثقافية الرقمية بأنها مجموعة الأنشطة الإعلامية والصحفية التي تركز على المحتوى الثقافي والفني في المواقع ومنصات التواصل الاجتماعي، والتي توفر للصحافيين والكتاب والمثقفين إمكانية مشاركة أفكارهم وآرائهم حول مختلف الموضوعات الثقافية، ليس كمحررين فقط، بل كمتلقين (قراء) أيضا.
وذكر بومطيع عددا من التحديات التي تواجه الصحافة الثقافية في وسائل التواصل الاجتماعي أهمّها: تضارب المعلومات، وقصر الانتباه والتركيز على التوصية والشهرة، وانتهاك قوانين الحقوق الفكرية، وعدم الالتزام دائما بالدقة والشفافية وذكر المصادر.
وفي الحقيقة يمكن اليوم لأي شخص نشر ما يريد في المواقع والمدونات ووسائل التواصل الاجتماعي وتقديم نفسه بوصفه صحفيا. لهذا من الضروري أن يكون لدينا طريقة فعالة لتحديد الصحفيين الحقيقيين ومعرفة من يمكن الوثوق به. كما ينبغي الحرص على تقديم مادة ثقافية موثوقة وعالية الجودة.
ويبدو أن التحدي الأكبر الذي أحدثته التكنولوجيا الرقمية في وسائل الإعلام بشكل عام يتجسّد في زيادة سرعة إيقاع الإنتاج والنشر وتجاوز مقص الرقيب، وهي أمور لها عواقب متعددة من حيث نوعية المعلومات وجودتها. فالتقنيات الجديدة تجعل من الممكن العمل بشكل أسرع ومستمر، ولكن ينبغي على الصحفي التحقق مما يكتبه قبل نشره. فالزيادة في سرعة التنفيذ يمكن أن تؤدي إلى سطحية المواد المنشورة وكثرة الأخطاء.
ومع ظهور الإنترنت تغيّرت أيضا طريقة جمع المعلومات والتحقق منها، فبعكس ما يحدث في عصر الصحافة التقليدية، التي كانت تضم الصحف والمجلات الورقية والإذاعة والتلفزيون، ويقضي فيها صحفي وقتا طويلا للعثور على المعلومات التي يحتاجها، اليوم يمكنه العثور بسهولة وسرعة على ما يبحث عنه عبر محركات البحث الرقمية التي تضع بين يديه قواعد بيانات ثرية وواسعة.
كما تحتوي شبكة الانترنت على موسوعات ثقافية رقمية لا توجد لها أي نسخ ورقية، مثل (الويكيبيديا) و(المعرفة)، وهناك أيضا عدد من المواقع والصفحات الخاصة بكبار الأدباء، مثل نزار قباني، ومحمود درويش، ويليام شكسبير، وكذلك حسابات على منصة تويتر وتليجرام وفيسبوك وإنستغرام ويوتيوب.
أما الكاتب الصحفي المصري محمد أبوزيد، الذي ترأس تحرير برنامج (صباح الخير يا مصر) عند افتتاحه، وأسس موقع (الكتابة) المكرس لقضايا الثقافية ونشر النصوص الإبداعية العربية ولا يزال يديره، فيبرر تراجع الصحافة الثقافية بظهور مواقع التواصل الاجتماعي والمدونات، التي في رأيه مكّنت “أي شخص من تأسيس مدونة أو صفحة على الفيسبوك أو جروب، وينشر من بواسطتها ما يشاء، سواء لنفسه أو نقلا عن غيره، مما أفقد الصفحات الثقافية الحقيقية قيمتها ومكانتها، لأن النشر أصبح سهلا ومتاحا لكل من يملك باقة إنترنت، فما الحاجة لصحف كبيرة أو مجلات مهمة.. فقد تساوت الرؤوس”.
ويرى أبوزيد أن النشر الرقمي لا يساعد على بناء مشروع ثقافي حقيقي يستطيع التأثير في الأجيال الجديدة التي تغير مفهومها للثقافة، بما أن الناس باتوا “يفضلون الاكتفاء بحلقة من (الدحيح) على أن يشتروا كتابا أو مجلة، أو يسمعوا بودكاست على أن يقرأوا ملحقا ثقافيا”. وفيما يتعلق بتجربته في النشر الرقمي يقول: “بالنسبة لموقع (الكتابة) الثقافي، فقد تأسس قبل 17 عاما، وكان أول موقع ثقافي في مصر، وما زال مستمرا طوال هذه الفترة بدعم شخصي، ليس لهدف سوى خدمة الثقافة، ونتمنى أن نستمر في أداء هذا الدور، حتى لو لم نحقق كل ما نبتغيه، لكن يكفينا شرف المحاولة”.
ويتحدث الكاتب الصحفي المصري سيد محمود، الذي خاض تجربة طويلة في مجال الصحافة الثقافية – حيث شارك في تأسيس عدد من الملاحق- عن بعض أوجه الاختلاف بين الصحافة الثقافية الورقية التقليدية والصحافة الثقافية الرقمية، ويقول: “أظن أن الصحافة الثقافية، بعد توقف الكثير من الملاحق الثقافية، تواجه مأزقا ضخما للغاية، جزء كبير منه يتعلق بالصحافة التقليدية والورقية وما تقابله من تحديات، وهناك جزء يتعلق بمدى صمودها في وجه التكنولوجيا وصحافتها الجديدة، اليوتيوب والبودكاست والتيك توك. هذه الصحافة الجديدة تخلق تحديا لأنها تقوم على الاستهلاك والتناول السريع ولا تكون مهتمة بسؤال القيمة وإنما تلاحق سؤال الاستهلاك وطبيعته، وهذا يضع الصحافة الثقافية أمام تحد…”.
أما الباحث الناقد العراقي الدكتور حاتم الصكر، الذي يعيش في المهجر، فله موقف إيجابي ومتفائل تجاه الصحافة الثقافية الرقمية، فقد كتب في مقال نشره في مجلة (الشارقة الثقافية، فبراير 2018)، تحت عنوان الصحافة الثقافية في رياح العصف التواصلي: “أن ما تقدمه الصحافة الثقافية يؤدي في جانب منه مهمة تغذية الحراك الثقافي العربي والمحلي بالنتاج والنقد، وربط أدبنا وثقافتنا وقرائنا بالعالم عبر التعريف بجديد ثقافته، وكذلك في اكتشاف الرؤى الجديدة والأصوات الممكنة. لكن الوسائل التقليدية لن تخدم التوجه صوب التحديث الشامل، لأننا نشهد لحظة انفجار معلوماتي وتقني، تتمثل في الثقافة الالكترونية البديلة. وذلك ما دفع ببعض الدوريات الثقافية إلى الاكتفاء بالصدور الرقمي، والاستغناء عن الهيئة الورقية، وهذا يتطلب تغيير أفق الكتابة ذاتها، واقتراح ما يناسب القنوات التعبيرية الجديدة ووسائل الاتصال الحديثة”.
ومن هذا المنطلق يرى الصكر أنه إذا كان الانتقال إلى الفضاء الالكتروني يمكن أن يتسبب “في اغتراب مؤقت فهذا الاغتراب سيزول، وسيندمج الكاتب والمثقف في آليات ذلك الفضاء وإجراءاته. كما أن الاغتراب الذي يعانيه المثقفون في المنافي والمغتربات، وزيادة الاهتمام باللغات والثقافات الأخرى سيزيدان من وتيرة الصلة بالآخر”. ويرى الصكر كذلك “أن انتشار ظاهرة الصحف الالكترونية والمواقع التي تديرها الصحف الورقية، تساعد على ديمومة الصحافة الثقافية العربية، وتضمن التواصل بين الكتاب والقراء في البلدان العربية المختلفة والمهاجر والمغتربات”.
وركز عدد من الصحفيين والمثقفين على ما سببه الإعلام الرقمي المفتوح لمن أراد أن يمارس الكتابة من تغيير في المفاهيم والقيم والاخلاقيات الخاصة بمهنة الصحافة الثقافية ومجالاتها. ويرى بعضهم أن هناك اليوم خلطاً بين الثقافة والترفيه. وتقول الصحفية الكندية كاثرين لالوند، المتخصصة في الشؤون الثقافية في صحيفة Le Devoir الكندية اليومية: “يمكن للصحفي العام أن يغطي كل شيء، لأنه ينظر إلى كل شيء. ومع ذلك فإن الصحفي الثقافي له تأثير أكبر ولن يكون قادرا على الكتابة في الاقتصاد كما يكتب في الثقافة. هناك أزمة في الصحافة وأزمة في الثقافة نفسها، مما يعني أن الصحافة الثقافية تعاني. الصحفيون الثقافيون المتخصصون مستقلون، مما يجعل عملهم محفوفا بالمخاطر. والتدريب المتخصص غير متاح للصحفي الثقافي”.
