تفاجئني وتكاد توقف نبضات قلبي حوادث وخلافات الجيران التي تقع بينهم ، وتنحرني بأسى شديد مفزع تلك الخلافات التي تؤدي إلى الاشتباك ، تبدأ بسوء الفهم الجاهز وشبه الناضج بناءً على تراكمات لم تجد لها متنفسا بين أهل الحي … !وتتطور إلى الشتائم ثم إلى الاقتراب المشتعل بالشرر في العيون لاستعادة عزة النفس والكرامة المهدورة بالتجريح بين الجيران الآخرين المتفرجين والذين يعتقدون بأنهم يشاهدون فيلما سينمائيا مجانيا ، ويتركون الجيران الأحباء القريبين بالشجر والحجر والسامعين أنفاس جيرانهم والمطلعين على أدق صرخاتهم حين يألمون … ! فلا تجد الخلافات من الجيران المتفرجين غير صب الوقود على حطب الغضب !
إنه لمن اخطر وأصعب المشاهد أن أرى جيران يسكنون الأرض المتجاورة، ولا يتحابون ولا يتعاطفون بل ولا يفرطون بصدق في التعاطف والمشاعر بين بعضهم البعض ، ذلك لأنهم أقرب لبعضهم من أهليهم الغائبين الزائرين في مناسبات العيد واليوم البعيد !!
إن الجيران في الأرض والبيت والموئل والسكن والجدار والشجر والحجر ، هم الأهل الأولون ، وهم الأقارب الأقربون ، وهم أكثر المخلوقات تماساً مع الواقع في أي مكان في السكنى ، فهم الذين يسمعون ضحكات أولادهم الصغار ولهوهم وبكائهم في عز الليالي الباردة ، وهم الذين يهبون لغيث وإسعاف بعضهم البعض حين تشتد الجراح والمحن في الضراء ويولمون الأرز واللحم قبل الأقارب في السراء والضراء ، وهم الذين يتبادلون إناء الطعام الشهي الذي هبت رائحته والبهار ،وهم الذين يخفضون من ارتفاع الجدار الفاصل ليأمنوا شر الزمن وغوائله ، وهم أصحاب تبادل التحية الدائمة وأصحاب البسمة ودمعة الفجر الوارفة ،! وهم الذين يملأون جرار بعضهم بالماء وأكواب بعضهم بالدواء حين تئن الحناجر بالعطش والأدواء .. ! وهم الذين يلجأون لبعضهم حين تفور الرياح مخلفة أوراد البيت وأوتاد الخيمة في الشتات !! وهم الذين يقفون في وجه الخوف والقحط ووجوهم نحو الغيث بنفس الارتفاع !
الجار هو أول من يجري لحمل طفل جاره المريض لأقرب طبيب ، والجار هو أول من يسعف زوجة الجار في مخاضها كأنها شقيقته بل وابنته القريبة ، الجار هو أول وأقرب من يحقن دم جاره حين يخترق اللصوص حرمة جاره ويلهث بدمه فداء جاره ، الجار هو المربي لجاره والمانع له من ضرب ولده الكسول ، الجار هو من يسمع الأم توقظ ولدها لمدرسته فيصحو ليوقظ ولده مثلها ، الجار يسكن في السقف والسر والقهوة ويحفظ بالفطرة كل الأسرار !!
فمن يفهم فينا قيمة الجار الذي يشترك معنا بالسقف والسر والحاجة والأسرار وآنية الدار ؟؟
الجار هو من يشارك الشجر والثمر حين يتدلى على نفس الباب ، كأنه يعلم الجار بموعظة الشراكة الإلهية التي أوصى بها الرسول عليه السلام حين قال عليه الصلاة والسلام : “والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، قيل: من يا رسول الله؟ قال: من لا يأمن جاره بوائقه”.
وقد اشتكى بعض الصحابة إلى النبي من سوء امرأة، فقالوا: “إنها صوامة قوامة غير أنها تؤذي جيرانها”، فقال صلى الله عليه وسلم: “هي من أهل النار”، وضرب لنا سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم المثل بالإحسان للجيران حتى ولو كان من غير المسلمين، حيث ذهب الرسول صلى الله عليه وسلم ذات مرة يعود غلامًا مريضا من اليهود، كان من جيرانه، فلما رآه يغرغر أشفق عليه، فقال له: “قل لا إله إلا الله أشفع لك بها عند ربي” فنظر الغلام إلى أبيه واستحى فقال له أبوه: “قلها يا بني واسمع كلام جارنا أبي القاسم )
فالجار هو حافظ الأسرار وأول من يخمد النار.. ! والجار بالفطرة والشكيمة الخلقية لا يسرق الجار ولا يخون ولا يزني بجاره ولا يتلصص على صبايا جيرانه ولا يتمتع بسماع بكائهم وخلافاتهم ، فيحزن ويتأرق لأرق جيرانه ، وكثيراً ما يهب من نومه متلفعاً بعباءة البرد ليدق باب جاره ويسأل : أأصابك مس أو شر أو حزن يا جار ؟؟
فكيف يهجم الجار على جاره ويمزق صدره بخنجر ؟؟ وكيف يرمي الجار نفاياته على باب جاره والكل عنده نفس النفايات ؟ وكيف يمنع الجار تحية الصباح وإشارة الحياة عن جاره ؟؟ ويمنع محبة الله بين الجيران بالتحية التي قال فيها الرسول عن حسن الإسلام : إقراء السلام وإطعام الطعام وحسن الخلق )
أو ليس عجيباً هذا الزمن الذي يحرق الجار فيه بيت جاره ؟؟ ويمزق الجار شعر جارته ويطعن صدر جاره ويحرق الشجر والحجر ويلعن الجيرة ؟؟ فكم من جار راح شهيد حريق وهو يطفئ بيت جاره المحترق ؟