الديمقراطية تقارع الرّصاص.. درس إيطاليا إلى تونس/ عزالدين عناية/ ايطاليا

تُعرَف الفترة التي تنامت فيها ظاهرة الإرهاب في إيطاليا، والمتراوحة بين 1968 و 1984، بـ”سنوات الرصاص” (Gli anni di piombo)، وهي السنوات التي شهدت فيها الدولة ارتباكا سياسيا وتبدلا متسارعا للحكومات، كان بعضها يدوم أياما معدودة، تأتي غيرها على أمل إخراج البلاد من الأزمة لتقع في المطبات ذاتها. تهدّدَت في أعقابها السلم الاجتماعية بشكلٍ مؤذٍ، ومع ذلك لم تنحرف ظاهرة الإرهاب بالمسار السياسي العام للبلد، ولم تزد الأوضاعُ الصعبة القوى السياسيةَ المجمعةَ على نبذ العنف والمؤمنة بالتنافس الديمقراطي السلمي، سوى مزيد من الإصرار على دعم مسار الديمقراطية الفتية.

العنف وأوهام التغيير

وعلى غرار المجتمعات التي ارتبط فيها العنف السياسي بعمليات التحديث، وبالتحولات السياسية، شهد البلد مع مطلع ستينيات القرن الماضي تحولا عميقا على المستويين الاجتماعي والثقافي، تبعاً لتحسّن الأوضاع الاقتصادية، دفعَا إلى تغيير سريع في نسق القيم الاجتماعية باتجاه التحرر والانعتاق من البراديغمات الكلاسيكية ذات الطابع المحافظ. ما أفرز بالنهاية حركات يسارية راديكالية تشكّلت أساسا من الطلاب والعمال؛ وبالمثل أيقظ توجهات يمينية ذات منزع فاشي متطرف. اشترك أثناءها الطرفان، اليساري واليميني، في لوثة العقوق -بالمفهوم الأيديولوجي- بعد أن غدت الأجيال الجديدة مسكونة بأحلام وآمال يغلب عليها الطابع الطوباوي والمنزع الفوضوي.

في الواقع تضافرت عوامل خارجية جنب العوامل الداخلية، دفعت نحو أجواء التوتر وجرّت إلى مستنقع الإرهاب. منها تداعيات ربيع براغ، وتبعات التنافس بين الصين والاتحاد السوفييتي، وعدوى احتجاجات مايو 1968، ذروة عصر الأيديولوجيا والمثاليات الثورية وأوهام التغيير. أي الفترة التي كان يُهتدى فيها بهدي ماركس وإنجلس ولينين وغرامشي وإرنست يونغر ويوليوس إيفولا. لذلك يذهب المتابعون لظاهرة الإرهاب في إيطاليا الحديثة إلى أن “سنوات الرصاص” هي فاصل زمني ضمن حقبة أوسع، أربك فيها الإرهاب مسار الدولة. وبالتالي يمكن توزيع تلك الحقبة على ثلاث محطات: أولاها تلك التي غلب فيها طابع الإرهاب الانفصالي، وتندرج ضمن هذا الصنف الأعمال المقترَفة في إقليم آلتو آديجي، شمال إيطاليا، من قِبل الجماعات الناطقة بالألمانية الساعية للانفصال حينها. فكثّفت هجماتها على المواقع الحيوية، ثم ركّزت جلّ اعتداءاتها على القوات النظامية؛ وأما المحطة الثانية فهي مرحلة الإرهاب اليميني المدعوم من قبل عديد التنظيمات، مثل “الطليعة القومية” (أفانغوارديا ناسيونالي)، و”النظام الجديد” (أورديني نوفو)، و”نظام السود” (أورديني نيرو)، التي سارت ضمن “استراتيجية بث الرعب” وسط العامة، حتى بلغت ذروة عنفها في تفجير محطة أرتال مدينة بولونيا في الشمال في العام 1980 مخلفة 85 قتيلا؛ وثالث المحطات في تاريخ الإرهاب في إيطاليا مرحلة الإرهاب اليساري منذ العام 1970، خصوصا مع تنظيمات “الألوية الحمراء”، و”الخط الأول” (بريما لينيا)، و”الصراع الدائم” (لوتّا كونتينوا)، التي ركزت أعمالها الإرهابية على النخب السياسية والإعلامية والفكرية والقضائية، على خلاف الإرهاب اليميني الذي توجه بإيذائه نحو عامة الشعب.

وكما بينت الأبحاث الاجتماعية أن فظاظة الإجابة المؤسساتية، من قبل الأنظمة السلطوية، في وجه الحركات الاجتماعية الباحثة عن البروز؛ فضلا عن غياب تطوير سُبُل تخفّف من حدة الصراعات الاجتماعية والسياسية، عادة ما تدفع باتجاه تنامي ظاهرة الإرهاب. ولكن برغم غياب مثل هذ العوامل في المجتمع الإيطالي، فإن العنف الذي ضرب البلد قد حصل داخل سياق ديمقراطي تتوفر فيه فرص التعبير عن المطالب للجميع عبر الوسائل المشروعة. لعله من هذا المأتى جاء تعريف الإرهاب في موسوعة تريكاني الإيطالية بإيجاز بليغ “كونه حربا مشنونة بدون قواعد”.

الإرهاب وليد الغلوّ

لقد انطلق الإرهاب اليميني في إيطاليا حين بدأت تجمعات ذات ميولات فاشية تدفع بالدولة للسير في مسار مقصود. وذلك عبر تدبير عمليات تفجير استعراضية، ضمن “استراتيجية صناعة التوتر”. كانت أولاها عملية “بياتسا فونتانا” في ميلانو سنة 1969، التي هدفت إلى إشاعة الرعب والخوف بين الناس بقصد دفع الدولة إلى تغيير مسارها الديمقراطي، وإحداث ردود فعل من داخلها تجاه التوجهات الليبرالية واليسارية المتنامية، بقصد خلق منعطف سياسي نكوصي.

مع أن هناك من يذهب إلى أن بعض العمليات الإرهابية اليمينية، في “سنوات الرصاص”، كانت بتنسيق، أو من صنع عناصر من داخل جهاز الدولة، بغرض خلق أجواء تبرر القبضة الأمنية وتضيق هامش الحريات الواسع، ومن ثمة التوجه بمسار الدولة نحو خط سلطوي، وقد عُرِف هذا التكتيك باستراتيجية الضغط. الأمر الذي دفع لاحقا بالرئيس فرانشيسكو كوسيغا إلى إنشاء لجنة للتقصي بهدف الكشف عن المورَّطين الفعليين في التفجيرات والاغتيالات والعمليات الإرهابية.

وأما من جانب الإرهاب اليساري الذي عانت منه إيطاليا طويلا، جدير أن نعي، أنه قبل أن يتشكل تنظيم “الألوية الحمراء” الطوباوي الأهداف، داخل أحضان حركة “موفيمنتو ستودينتيسكو” الطلابية، مع ريناتو كورشيو ومارا كاغول، وقبل أن يجد مرجعيته الملهِمة في الثورة الكوبية والمقاومة الفيتنامية والثورة الثقافية الصينية، كانت يوطوبيا تحقيق دولة البروليتاريا حاضرة بشكل واسع وبعمق في الأوسط اليسارية. والجلي أن تلك الشبيبة الحالمة –النواة الأولى للألوية الحمراء- ما كانت تستلهم رؤاها من الشيوعية السوفييتية، الماثلة أمامها، بل كانت تتطلع، بعين ملؤها الإعجاب والانبهار، إلى كوبا وإلى نموذج فيديل كاسترو وتشي غيفارا. ولا غرو أن بين ثنايا الحركة “البَرْتيجانية” اليسارية، التي ساهمت في إسقاط الفاشية في إيطاليا، كان من يتطلع إلى مواصلة العمل الثوري حتى بناء الجنّة الاشتراكية الموعودة، فقد كان الاستعداد النفسي حاضرا بالقوة أيضا في ثنايا النسيج الاجتماعي.

داخل تلك الأوضاع المفعمة بالحس الصوفي الاشتراكي، دفعَ الإحساسُ المفرط بالنقاوة الثورية تنظيمَ الألوية إلى توتير علاقاته بالحزب الشيوعي الإيطالي، بل عَدّه حزبا مُتبرْجِزاً ومتنكرا للعقيدة البروليتارية، وذهب بعيدا حد اغتيال بعض رجالات الحزب متّهما إياهم بخيانة الثورة والتنكر لأهداف المجتمع البروليتاري. وبالمثل ما كانت تربط الألوية صلات حسنة بالأوساط النقابية، فجاءت المواجهة باتهام قادة المنظمات العمالية بتشويه المسار النضالي للطبقة الشغيلة، وتقصيرهم في تأجيج الصراع الطبقي. وبرغم المنشأ شبه النِّحْلي لتنظيم الألوية، من رحم “الشيوعية الخالصة”، يبقى التنظيم وليد تمازج مكونات ثلاثة: عمالية في مصانع ميلانو، وطلابية في جامعة ترنتو، وسياسية مرتبطة بخط مقاومة الفاشية في ريجيو إيميليا.

نقطة اللاعودة.. بداية السقوط

وبالعودة إلى مسار التنظيم التاريخي، يمكن رصد محطات رئيسية في العمل الثوري للألوية الحمراء: مرحلة الدعاية المسلحة (1970-1974)، والتي كانت تهدف إلى خلق طليعة نموذجية تدل على مسار بلوغ السلطة وتقود إلى إرساء دكتاتورية البروليتاريا؛ ومرحلة مهاجمة قلب الدولة (1974-1980)، بعد بلوغ اليقين أن النظام لا ينبغي إصلاحه بل إسقاطه؛ ومرحلة الانقسام والتحلّل (1981-1988)، وهي بمثابة “نقطة اللاعودة”، التي عادة ما تنتهي إليها دورة النضال الفوضوي، بالبحث عن الحفاظ على التواجد ومن ثمة العزلة، بعد تلاشي الأهداف الاستراتيجية. وعادة ما تخلّفُ تلك المرحلة انشقاقات داخلية، يتحول فيها السلاح إلى أداة موجَّهة نحو الداخل لتسوية صراعات استراتيجية ورؤيوية، فيغدو مجرد إعادة التفكير في المسار خيانة وتنكرا للماضي المجيد، الذي يتخذ صبغة قداسية.

كانت استراتيجية الإطاحة بالنظام السياسي القائم، ومن ثمة النظام الاجتماعي -بعد الخروج من حيز الجامعة والمصنع-، متمثلةً في مهاجمة الوجوه الرمزية لمؤسسات الدولة. فتحول على إثرها تكتيك الألوية الحمراء من شكل النضال الطبقي إلى مهاجمة الصورة الشرعية للدولة. تعددت العمليات الإرهابية حينها في عدة مناسبات، حتى جاء اختطاف ألدو مورو -سكرتير حزب الديمقراطية المسيحية ورجل الوفاق مع الحزب الشيوعي الإيطالي- وتصفيته بعد 55 يوما من اعتقاله (في التاسع من مايو 1978) مسّا موغلا من هيبة الدولة ومن وحدة الطبقة السياسية، وبالمحصلة ضربا للديمقراطية الوفاقية، التي اختارها المجتمع الإيطالي سبيلا للقطع مع الإرث الفاشي.

فالرجل كان من بين أعضاء المجلس التأسيسي سنة 1946، تقلّد منذ 1959 مهام سكرتير حزب الديمقراطية المسيحية، وترأس ثلاث حكومات متشكلة من الوسط واليسار، وما بين 1970 و 1974 عُيِّن وزيرا للخارجية. دفع الأذى الكبير الذي خلّفه قتل ألدو مورو، رغم نداءات من البابا ومن كورت فالدهايم الأمين العام للأمم المتحدة وقتئذ لإطلاق سراح الرجل، دفع الدولةَ إلى خوض غمار عملية غربلة سجّادية للمجتمع، لم تضيق فيها على الديمقراطية ولم تبطش فيها اليد الأمنية. بلغت فيها أعداد المورَّطين المرتبطين بشبكات الإرهاب 4200 نفر، وبلغت أعداد المستجوَبين قرابة 20.000 شخص.

لكن في مقابل تلك القبضة الحازمة بقصد التصدي لظاهرة الإرهاب، والتي أسفرت عن اعتقال زعيم تنظيم الألوية الحمراء ريناتو كورشيو سنة 1976، مع أنها لم توقف عمليات التنظيم الإرهابية، خاضت الدولة سياسة استيعاب في الآن نفسه، واختارت توسيع التحالف ضد الإرهاب بحشد كافة الأطراف الرافضة للعنف المسلح إلى جانبها، أيا كانت الطروحات السياسية، وهو ما أصاب الألوية الحمراء التي باتت معزولة في مقتل. الأمر الذي أحدث تململا داخل اليسار المتواجد خارج البرلمان، مشكلا فصيلا تحت مسمّى “الصراع الدائم” (لوتّا كونتينْوا)، الذي رفع شعار “لا مع الألوية الحمراء ولا مع الدولة”، وهو فصيل يعود منبته إلى التراث الطهري اليساري الذي سبق أن أشرنا إليه.

وفي خضم صراع الدولة الإيطالية مع الإرهاب بينت التجربة -وبما يشبه اليقين- أن الديمقراطية سلاح فعّال في التصدي للإرهاب، لا سيما حينما تكون خيارا استراتيجيا لا مجرد ديكور؛ إذ بالمقابل تبدو الديمقراطية أداة عاجزة عن مقاومة هذه الآفة، حين يسود التلاعب بها وتوظيفها عند الحاجة للتستر على سياسات منافية للمنطق الديمقراطي.

لا مراء أن مقت الإرهاب والتصدي له من لدنّ أطراف عدة وفي مجتمعات مختلفة، قد خلّف نوعا من الانحرافات في التعاطي الرصين مع هذه الظاهرة المقلقة والمؤذية. يتعرض جيف غودوين في مقال منشور في مجلة “سوشيل موفيمنت ستادييز” بتاريخ 2004 بعنوان “ما ينبغي أن يُفسَّر حتى نفسِّر الإرهاب؟” إلى أن كثيرا ممن كتبوا عن الإرهاب تورطوا في “بزنس” مضادة الإرهاب مما شوّه أبحاثهم ووقف حائلا دون تقديم إجابات موضوعية عن ظاهرة الإرهاب. فلئن يكن الإرهاب في مجمل تشكلاته خارجا من رحم الفكر الفوضوي (الأيديولوجي أو الديني، اليميني أو اليساري)، فإن فهمه ومن ثمة محاصرته ينبع كلاهما من رحم الفكر العقلاني الرصين لا الفكر المتهوّر.

 

 

About محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!