د قاسم المحبشي
سنحت لي الفرصة في مؤتمر الإسكندرية عن ( الترابط بين الإنسان والدين والبيئة) للاستماع إلى المفكر المصري المخضرم مستشار عبدالجواد ياسين، صاحب أهم الكتب في انثروبولوجيا الدين وفلسفته ومنها؛ السلطة في الإسلام؛ العقل الفقهي السلفي بين النص والتاريخ. والدين والتدين التشريع والنصّ والاجتماع ومقدمة في فقه الجاهلية المعاصرة
السلطة في الإسلام نقد النظرية السياسية
واللاهوت؛ بحث في أنثروبولوجيا التوحيد.
ولما كنت قد قرأت له واستمعت إلى محاضراته عبر وسائط التواصل الاجتماعية كان اللقاء المباشر معه فرصة لا تقدر بثمن. أستهل المؤتمر بمحاضرة ضافية عن نظريته في بحث الظاهرة الدينية من وجهة نظر منهجية عقلانية تكاملية.
اسمتعنا اليه باهتمام وكأن على رؤوسنا الطير! رجل سبعيني شديد التواضع والبساطة يكلم بثقة العارف الحكيم بلغة عربية واضحة وسلاسة منطقة صارمة تقنع الشيطان الرجيم. وخلاصة نظريته هي أن الدين جاء ليشبع حاجة إنسانية واجتماعية حيوية استدعتها الحياة الاجتماعية ومشكلاتها المتغيرة باستمرار.إذ أكد أن المشكلة ليست في الدين ذاته بوصفه كليا مطلقا قادم من خارج الاجتماع البشري ولأنه لا يعمل في الفراغ بل من داخل الاجتماع فإن حضوره يؤدي بالضرورة إلى حدوث التدين (ممارسات البشر للدين في الواقع) وليس المشكل في حدوث التدين بوصفه ممارسة للدين ، بل في تحوله إلى دين، أي اكتسابه صلاحيات السلطة المقدسة (المؤبدة) للمطلق. وهو ما يعني تثبيت كتلة من الثقافة التاريخية، هي بطبيعتها غير قابلة للتثبيت داخل نطاق المطلق المقدس أي الثابت الملزم، الأمر الذي يفضي في لحظة ما إلى صدام ضروري مع حركة الاجتماع الخام بما أنها بطبيعتها متغيرة لا تقبل الثبات. إن ذلك يفسر لماذا يظل التدين سبباً لموجات مزمنة من التوتر في الفضاء الاجتماعي، رغم الحضور العميق للدين على مستوى الذات الانسانية.
شدتني تلك الفكرة التي تفتح آفقا جديدة لتفسير ظاهرة الدين بكل ما تنطوي عليها من تعقيد وتركيب وطالما وقد حيرتني منذ زمن طويل. إذ أن الدين بما هو مؤسسة أجتماعية راسخة في تاريخ الحضارة البشرية يستحق البحث والدراسة والفهم والتفسير لا سيما في عالم اليوم الشديد التداخل والترابط والانكماش . والسؤال هو كيف يمكن للشعوب والدول والثقافات والاديان أن تتعايش في عالم شديد التقارب والتفاعل والاحتكاك؟ جاء في حوار مطول مع المفكر الفرنسي روجيه دوبريه مايلي؛ ” إلى غاية القرن الثامن عشرة كانت حضارتنا تعيش على الماضي،والاقتداء بالمسيح، والقديسين والأبطال بينما يعيش حاضرنا على وقع اللا-متوقع، أي بلا شيء سواء في الخلف أم الأمام فقط التجريب. أستشعر، ثنائية قطبية :من جهة هستيريا رجفات من الغضب، ومن جهة ثانية الكآبة واللامبالاة يرتفع توتر المكتئب يوميا مع عشرات الومضات،لذلك سيكون أمام المحللين النفسانيين، عملا جبارا للقيام به. وفي جوابه عن سؤال؛ ألا تشكل العولمة، سلطة أمل جديدة؟ أجاب قائلا: لا أتبين الأمر بوضوح. تنتقل البضائع جيدا، يحيا القماش والحاوية، وتتقارب بامتياز في نفس الوقت الثقافات والديانات فيتماس بعضها ببعض، مما يخلق الاهتياج ويحدث الالتهاب في المفاصل . تفاعلات شديدة الحساسية،بالتالي انثناءات ورعب هوياتي هنا وهناك ” وإذا كان دوبريه يحكي عن الحضارة الغربية المثلى الأعلى للحضارة الإنسانية الحديثة. فكيف سيكون الحال بالنسبة لنا في العالم العربي الإسلامي الذي شهد انبعاث هذه الموجة الكاسحة للحروب الطائفية؛ حروب دينية طائفية عشائرية جهوية سياسية مستعرة في كل مكان من بلاد العرب والإسلام (شيعية، سنيه مسيحية، عربية كردية، في العراق وسوريا. ومسيحية، شيعية، سنية، درزية، في لبنان. وزيديه، حوثية، اثنا عشرية، سنية، سلفية، عشائرية، جهوية في اليمن، ولغوية أثنية عربية، أمازيغية، بربرية إسلامية إسلامية في الجزائر، ومسيحية إسلامية، جهوية في السودان، وعشائرية طائفية مناطقية في ليبيا. الخ) يحتدم كل هذا في فضاء ثقافي نفسي مشحون بعنف مادي ورمزي، وهستيريا عصابية جماعية عدائية شديدة التحريض والانفجار (روافض، نواصب خوارج، مجوسية، صفوية، قاعدة، أنصار الشريعة، شيعية، حزب الله، أنصار الله، داعش والنصرة.. إلخ). فضلاً عن العمليات الإرهابية التي يقوم بها بعض من يدعون الإسلام في بلدان العالم المختلفة في الولايات المتحدة الأمريكية وفي الدول الاوربية وفي كل مكان من جهات العالم الأربع والسؤال الملح هنا ولآن هو ما الذي جعل هذا التنوع الديني الهوياتي في المجتمعات العربية الإسلامية يتحول إلى شر مستطير، بينما هو في مجتمعات كثيرة أخرى مصدر قوة ودليل صحة وعافية كما هو الحال في الهند والصين وروسيا وأمريكا وأثيوبيا وغيرها من الدول التي تضم طيفا واسعا من الهويات (ديانات، أقليات، أعراق، أثنيات، لغات، طوائف، ملل، نحل، ومذاهب وما لا يعد ولا يحصى من الجماعات الثقافية المتنوعة) هذا هو السؤال الملح الذي يجب على المشتغلين في العلوم الاجتماعية والإنسانية التصدي له. وليس هناك ما هو أكثر الحاحا من البحث في الدين مداراته لمعرفة سر أزمتنا وممكنات تجاوزها. والبحث في الدين لا يعني كما يتوهم ذوي العقول الخفيفة رفضه والاستغناء عنه بل يعني فهم طبيعته وثيماته واولياته وممكناته الإيجابية التي يمكنها تساعد في تجاوز أزمتنا المستفحلة.
فإذا ما عرفنا بانه لا يوجد إنسان بغير حاجة دينية. بيد أن هذا القول العام لا يخبرنا بشيء عن سياق خاص تتجلى فيه هذه الحاجة الدينية, فقد يعبد الإنسان الحيوانات أو الأشجار أو الأصنام والأوثان المنحوتة من الحجارة أو الثمار والمعادن أو إلهاً غير منظورا أو إنساناً أسطوريا أو جماعة أو طائفة أو المال أو النجاح أو العلم أو الإنسانية وقد يؤدي به إيمانه إلى تطوير روح المحبة واللطف والشفقة والخير والجمال والسلام أو على العكس روح الحقد والغل والكره والتعصب والاحتقار والعنف والإرهاب. وهذا ما يستدعي الحاجة الملحة لبحث ودراسة تاريخ الاديان في سياقاتها الاجتماعية والثقافية والجغرافية المختلفة للتعرف على تجارب الشعوب الأخرى التي لم تشهد صراعات طائفية وحروب دينية مقدسة رغم أنها تحتوي على مذاهب وعقائد دينية شديدة التنوع والاختلاف مثل الهند والصين ودول شرق أسيا وقد كانت أحد الامثلة التي تحدث عنها المستشار عبدالجواد ياسين في محاضرته. ومن محاسن الصدف أن تسنح لي الفرص للحديث المطول مع المستشار في طريق عوتنا إلى القاهرة محطة القطار اثناء الانتظار. سألته عن تكوينه الأكاديمي ومصادره المعرفية ومنهجه التكاملي فأخبرني بإنه درس القانون في جامعة القاهرة كتخصص رئيس واثناء دراسته للقانون كان يدرس الفلسفة بحرص شديد على يد استاذة كبار منهم؛ توفيق الطويل عثمان أمين وزكريا إبراهيم وأميرة حلمي مطر وزكي نجيب محمود وغيرهم ومن ثم درس الفكر والفقه الإسلامي وعمل قاضيا شرعيا لثلاثة عقود من الزمن واثناء عمله كان يفكر موضوعات كتبه ومن النظرية الممارسة استخلص أن أهم مدخل منهجي لدراسة الدين يتكون من مجموعة من المنظورات المنهجية التكاملية ومنها : الفلسفة والانثربولوجيا والسياسة والقانون والفقه وعلم الاجتماع وعلم النفس والجغرافيا والهرمنيوطيقا إذ يصعب رؤية الظاهرة الدينية بوصفة بنية مؤسسية متعددة العناصر والانساق الاجتماعية والسياسية والأخلاقية والجغرافية والثقافية والايديولوجية بمنظور واحدا ووحيدا. كانت فرصة طيبة للتعرف على شخصية المستشار عبدالجواد ياسين ومنهجه الرصين.