الشاعر شوقي شفيق .. محتشداً براياتٍ.. ويقطينٍ .. وغياب

بقلم: كمال محمود علي اليماني

بين يديّ اليوم كتاب أهدانيه مشكورا الشاعر المبدع شوقي شفيق، وهو عبارة عن ديوان شعري نثري في معظم قصائده، بعنوان (محتشداً ..برايات.. ويقطين .. وغياب ).
رُسمت كلمة محتشداً بالخط العريض وباللون الأسود كأنما هي إشارة إلى تعاظم ذلكم الاحتشاد ، في حين جاءت الكلمات الثلاث لاحقة بخط أبيض غير سميك. توسطت الغلاف صورة مائية ليقطينة كبيرة ، وجاء التجنيس في أسفل الغلاف .
مفردة ( محتشداً) في العنوان يمكن أن تكون حالاً أو تمييزاً أو خبراً لمحذوفات، غير أنه من خلال وجودها بذات التصريف في قصيدة من قصائد الديوان الموسومة ب( محتشداّ بيقطين) ، حيث وردت في قوله : ” سيذهب محتشداً بأساطير مكيفة بأسلاف بائسين” ، بدت مفردة ( محتشداً ) حالاً ، أما الرايات واليقطين والغياب فلها دلالاتها التي تنكشف للقارىء حال إكمال قراءة قصائد الديوان ، ولا أحبذ أن أفسد عليه متعة الاكتشاف.
الديوان من إصدارات اتحاد أدباء وكتاب الجنوب ، وفي غلافه الداخلي ذكر أنه الطبعة الأولى للعام 2023م، وهو في 117 صفحة من المقاس المتوسط.
حمل الديوان خمسا وعشرين قصيدة، ومعلوم أن الشعر الحداثي يعمد إلى التكثيف والإيماض حتى في عناوين القصائد؛ لذا نجد أن عناوين القصائد قد توزعت على النحو التالي:
*14 قصيدة من مفردة واحدة.
*6 قصائد من مفردتين.
* 5 قصائد أكثر من مفردتين.
وبالنظر إلى حقلها الدلالي نجد الغالب عليها حمل الطاقة السلبية مثل:
حرب، ميتون، مغادرة، ضجر، إضراب، هتك، عاهل الجنون .. وغيرها.
وفي هذا إشارة إلى أن قصائد الديوان في معظمها ناقدة لمظاهر متعددة في النفس ، وفي المجتمع و الحياة.
والحق أن الديوان محتشد بالصور الجمالية والبلاغية ، والظواهر الأسلوبية التي أدارها الشاعر شوقي شفيق بحرفية فائقة، واقتدار مشهود له.
فظاهرة التكرار مثلا، ترد في كثير من القصائد لتضفي دلالة التأكيد إلى جانب جمالية الإيقاع ؛ فالمفردة ( منذ) في قصيدة ( منذ) تكررت استهلاليا 40 مرة، في حين أن حرف الواو الاستهلالي متبوعاً بنقاط الحذف الثلاث هو أيضا قد تكرر 24
مرة . وفي قصيدة ( غابة) تكررت المفردة ( غابة) 7 مرات ، في حين تكر الفعل المستقبلي ( سنرى) 3 مرات في قصيدة لم تتجاوز الصفحة الواحدة.
وشكل تكرار الفعل( سنرى) توازيا دلاليا متقابلاً.أما قصيدة ( الرايات) فقد تكررت فيها مفردة ( الرايات) 48 مرة في تكرار استهلالي يشد انتباه القارىء شداً نحو إكمال العبارة مابعد المفردة، وبالتأمل في ذلكم التكرار نجد أن الشاعر شوقي شفيق قد عمد إليه لسحب القارىء من الأعالي رويداً رويداً إلى المنخفضات.
ولعل في مفردة( الرايات) تناص مع ذات المفردة من حيث دلالتها القديمة ، حيث كانت علامة ترفع على خيام بائعات الهوىفي العصر الجاهلي، وفي القصيدة إدانة لهذه الرايات المرفوعة حديثاً، والتي تشير إلى كل ماهو سيء في جوهره ،ويعلن عن نفسه دون حياء.
وسنجد في قصيدة ( لافرع لي ) تكرار الفعل ( أكاد) وأداة النفي ( ليس) ، في دلالة واضحة على عدم التثبت، وحالة الشك التي تعتري الشاعر.
وهناك تكرار للحروف أيضا، كما في قصيدة ( بروق) حيث تكرر حرف الكاف 7 مرات في خمسة أسطر ؛ لما له من إيقاع صاخب صخب البروق، وفي قصيدة(ميتون جداً) تكرر حرف الميم 14في مقطع لايتجاوز الخمسة أسطر ، لما له من ارتباط بالموت والسكون كحرف صادر من زم الشفتين، حيث يقول:
ميتون جدا،كأن لم يمت بعدهم أحد أو قبلهم
ومن فرط موتهم يوزعون رغباتهم على الحشد
لا موتى سواهم
ولا عمل لهم سوى الموت بانتظام آسر

وتبدو ظاهرة التوازي المتجانس جلية ومبثوثة في كثير من القصائد / منها قوله:
*منذ جميل حتمل، الجميل حتما …. ( وجميل حتمل قاص سوري).
*هذي انهماراتي أقولُ؟ أم انهياراتي؟
*لماذا جَففتِ / وجفّفتِ.
* سيرة جنون أم سورة جنون.
وتتناثر في طي القصائد ظاهرة التوازي المتقابل الإيقاعي والدلالي / منها:
*وبعد انتهاء فتيات الملهى من عملهن اليومي
وبعد انتهاء نساء الليل اليومي من أعمالهن.
* في الغابة سنرى حطابين.
وفي الغابة سنرى صيادين.
أما الانزياحات الدلالية ( البلاغية) فلا تكاد قصيدة تخلو منها ، كقوله :
* نسرّح أحزاننا.
*تحب الاغتسال بالنيران الباذخة.
*ستدب عيناك في الظلام.
*تهندس شروق الشمس.
*هاتي بهاءك كي أسد به مسارب وجعي.
ناهيك عن الانزياحات التركيبية ( النحوية.. تقديم وتأخير وحذف إلخ ..)، كقوله:
*أمس أرسلت الحرب لي رسالة .
*في الغابة سنرى حطابين.
*بارتعادة خوف وبرد ستدخل غرفة العمليات.
ونجده أحيانا يجمع بين الانزياحين الدلالي والتركيبي، كقوله:
*مرتدين بقايا أجسادهم جاءوا.
وللتناص نصيبه أيضا من الحضور في قصائده ، كقوله:
*في ملعبها نتبادل القتلات الترجيحية ولانسجل هدفاً( تناص رياضي).
*وتأخذ بأجسادنا القابلة للطرق والسحب ( تناص فيزيائي).
*لاعاصم منها إلا إلاها ( تناص ديني ).
*هيت للأيام ، وحيَّ على الهوى( تناص ديني )
وفي تناص مع المثل السائر : *جلطة الشاعر بألف حرف.
والشاعر شوقي شفيق يستخدم في قصائده كل مايمكن له من تقنيات الشعر الحديث ليمنح قصائده أبعاداً دلالية وإيقاعية متميزة ، فهو يستخدم هندسة بناء النص بالصورة التي تعطي النص دلالة إيحائية لاتصل إلى القارىء إلا عبر إعادة البناء الهندسي للنص ، كقوله في بناء هندسي تصاعدي:
*سيكون خرابٌ
سيكون خرابٌ ضخم
سيكون خرابٌ ضخمٌ وأنيق
سيكون خرابٌ ضخمٌ وأنيقٌ وفخيم
فعند كل سطر يمنح الخراب صفة جديدة ليصعد بالقارىء رويداً رويداً .. خطوة خطوة ؛ ليصل به إلى الذروة في قوله:
سيكون خرابٌ ضخمٌ وأنيقٌ وفخمٌ وسعيدٌ بالجثت المرمية في هذا البهو الشايع.
ولقد شكّل البناء الهندسي درجات سلّم متجهة للأسفل ، مصورة حالة التدحرج والسقوط في قوله:
غيمةٌ تتدحرج
غيمٌ يتدحرج
يتدحرج
( ولاحظ سقوط التاء المربوطة من مفردة غيمة الأولى ، ثم سقوط المفردة كاملة في السطر التالي؛ في إشارة للتلاشي كأثر من أثر التدحرج.
وذات البناء الهندسي يختم بها القصيدة بالتدحرج للأسفل ، فيقول:
وغيمةٌ
تتدحرج
مثل
عامٍ
بليد.
وقد حوى الديوان النثري بعضاً من قصائد التفعيلة مثل قصيدة اقتياد ، وعاهل الجنون.
ومن التقنيات الشعرية التي اشتغل عليها الشاعر شوقي شفيق في ديوانه هذا مايعرف بالسرد الشعري ، فلقد جاءت بعض قصائده منسوجة على منوال هذا السرد ، في مشهدية سينمائية فائقة ، كما في قصيدة إضراب، وكذا قصيدة مغادرة ،وقصيدة تعلّم التي يدين فيها الشاعرُ الشرطيَ رمز السلطة الغاشمة.
شعر التفعيلة والشعر النثري لايقومان على وحدة البيت ، بل على الوحدة الموضوعية للقصيدة ؛ ولهذا فمن العسير أن يحسن الواحد منا اقتطاع أجزاء من هذه القصيدة أو تلك؛ لإظهار جماليات الصور البديعة التي حفل بها الديوان، فلقد حفل بقصائد متكاملة، غاية في الروعة الإيقاعية والدلالية.
شمل الديوان إدانات واضحة ، وتصويراً بشعاً للحرب ، كما في قصيدة (حرب دوت كوم) ، إذ يقول:
أمسِ أرسلت الحرب لي صورة ناصعة الجثث وأنا أجمع التذكارات كسائح ، أو كأني.
وأرسلت لي أمس أيضاً سلة أطراف متبّلة ورؤوس بنصف صبغتها.
وفي قصيدة مغادرة يقول:
توّزع ابتساماتها، وتبيع ما يمكن بيعه، ظنت أن المدينة ستحميها من رجال العشيرة ، غافلة عن أن المدينة غادرت المدينة، وتقاسمت العشيرة ما تبقى منها.

تنوعت وتشعبت دروب القصائد ،وإن غلبت عليها الصبغة الواقعية ، وماحوى الديوان التفاتاً صوفياً أو وجودياً كما حدث مع الشاعر شوقي شفيق في قصائد ضمتها دواوين أخرى ، غير أن النَفَس الإيروسي قد نزع للظهور بين الفينة والأخرى، وإن لم يكن طاغيا.
الديوان حافل بالكثير من القصائد الشاعرة التي تضيف شهادة جديدة إلى مجمل دواوينه السابقة التي شهدت له بالمكانة المرموقة بين شعراء الحداثة ، ليس على مستوى اليمن فحسب ، بل وعلى مستوى وطننا العربي الكبير.

 

 

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!