آفاق جرة
لعبت الحكاية الشعبية الفلسطينية دوراً هاماً في بلورة مفاهيم سياسية اجتماعية في التعريف بالهوية الوطنية.
وإذا ما تمّ القول إنّ الحكاية الشعبية في تعريفها العام قصّة ينسجها الخيال الشعبي حول حدث (تاريخي) مهمّ.. ويستمتع الشعب بروايتها.. جيلا بعد جيل عن طريق الرواية الشفوية.
مثل حكايات ألف ليلة ليلة، ذلك الأثر النفيس الذي صاغت عوام بغداد – ما بين القرنين الثاني والخامس الهجريين- قسماً مهماً من حوادثها والتي اكتمل نضجها الفني في مصر والشام فيما يلي ذلك من قرون. وقد حوت تلك الليالي حكايات كثيرة عن الشطّار التي يُجمِع الباحثون على أنّها واحدة من أثمن المجموعات التي تتكوّن منها ألف ليلة وليلة.
وقد تولّى رواية تلك الحكايات قصّاصون عقدوا مجالس لهم بالساحات العامّة فكان القصّاص يتصدّر المجلس ويأخذ الناس بنكاته ولياقته وتفنّنه، فكان يقصّ على سامعيه بصوته العريض حكايته، فينتقل بهم إلى عصور الأبطال الشجعان فتأخذ الحماسة المؤقّتة منهم كلّ مأخذ؛ ولا شكّ أنّ هذه الحكايات صوّرت الحياة الوجدانية التي عاشتها العامّة في ظلّ أحداث كبيرة، ولم تكن هذه الحكايات إلاّ مكاناً للتنفيس، وامتصاص الغضب الذي تعاني منه العامّة بسبب الظروف الاقتصادية والاجتماعية على مرّ العصور.
هذا على الصعيد التاريخي للحكاية الشعبية التي شاعت في عالمنا العربي، والتي كانت من حيث المعنى “حكمة وتحفيزا للاعتزاز بتاريخ العرب”، وبصرف النظر عن أصول هذه الحكايات، فالعامّة لم تكن معنية بهذه القضية، ما دام يتمّ سردها باللغة العربية.
لكن هذه الحكايات تمثِّل حالة الاغتراب السياسي التي تعيشها العامّة، فهي لا تملك السلطة – وتفتقد الثّقة- في مرجعيتها. وكذلك تحتِّم على المستمعين الرّضوخ لأصحاب السلطان، الذين سمحوا لهم الاستماع والاستمتاع بهذه الحكايا. خاصّة أنّ هذا النوع من السّرد الشفوي إذا جاز لنا التعبير، قدّم خدمة جليلة في تخدير وتغييب العقل، والركون إلى الخيال الذي لا يفضي إلا إلى السكون والخمول.
هذا الإرث للحكاية الشعبية استفاد منه الاستعمار في عالمنا العربي، وتمّ استثماره بشكل فاضح، لكن هذا الاستغلال كان هذه المرّة، يمتلك أكثر تقنية وخبث، لأنّ الراوي لهذه الحكاية مجهول، وغير معرّف، وهذا ما نجده على سبيل المثال في فلسطين، أيام الاستعمار البريطاني، الذي قام بصناعة حكايات شعبية تصبّ كلّها في خدمة بقائه. هذا من جانب، ومن جانب آخر محاربة الذين يعترضون على وجوده. وخير مثال على ذلك حين أشاعت السلطات البريطانية في الثلث الأول من القرن الماضي في فلسطين، وتحديدا في القرى، أنّ الشيوعيين يتزوّجون أخواتهم، ولقت هذه الشائعة رواجا كبيراً بين الفلاحين، ولم يُعرف وقتها صاحبها، وكان يطلق على الشيوعيين في القري والمدن طبعا “الحمر”، كما هو معروف أنهم لعبوا دورا كبيرا في مقاومة الاستعمار البريطاني والعصابات الصهيونية، من خلال عصبة التحرر، التي تركت الحزب الشيوعي الفلسطيني، الذي وتحوّل بعد النكبة لحزب راكاح، أي الحزب الشيوعي الإسرائيلي، وكان هذا الحزب في جوهره فلسطينياً، في كلّ ممارسته وأفعاله؛ ولعب دورًا جوهريا في التجمّعات العربية الفلسطينية، داخل الوطن المحتلّ، ولا أحد ينكر هذا الدور إلاّ إذا كان جاحداً.
وبقيت هذه الشائعة، تدور في مخيِّلة الفلسطيني التي تعاطى معها، وشكّلت حاجزاً في اتّساع بقعة الثورة؛ ولعب مخاتير القرى، دورًا غير قليل في نشر مثل تلك الشائعة، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحدّ، عندما قامت ثورة “36” في فلسطين، وتحديدا في الشمال الفلسطيني، ورغم محدودية هذه الثورة، التي قادها عز الدين القسّام، وهو رجل دين تمّ ترحليه وإبعاده من سوريا، من السلطات الاستعمارية الفرنسية، إلى حيفا، وكان خطيباُ مفوّهاً، إلاّ أنّ بريطانيا لم تعجز في نشر حكايات عن الثوار: إنّهم يسلكون سلوكاً غير أخلاقي، مثل إجبار الأهالي على تزويج بناتهم لهم، وكان الشائع في تلك الحقبة التاريخية في فلسطين مقولة (باسم الثورة) يتمّ طلب الزواج، وهناك عشرات القصص التي تمّ ترويجها، لكن إذا ما تمّ التدقيق في هذه القصص، لا تجد لها أي أثر حقيقي، ولا حتى أسماء العائلات التي زوّجت بناتها غصبا، أو باسم الثورة، لكن بقيت هذه القصص راسخة في الشخصية الفلسطينية المعاصرة، التي تنامت فيما بعد، لتشكل حاجزا قوياً في مواجهة الثورة المعاصرة التي انطلقت في العام 1965.
كما أسلفت في بداية المقال، أنّ الحكاية الشعبية، لعبت دورًا هامّا في بناء الشخصية الفلسطينية المعاصرة، ومع الأسف هذه الحكايات بقيت تلاحق الثورة الفلسطينية المعاصرة، على اختلاف صناعها الذين كانوا معادين للثورة، لنقد موضوعي، لتعرية صناعها، والكشف عن أهدافها المعادية، لكلّ حالة تنوير وتثوير، في المجتمع الفلسطيني، واللافت في هذا السياق، ورغم الشتات الذي يعاني منه المجتمع الفلسطيني، إلاّ أنّ الحكاية الشعبية المعادية للمقاومة الفلسطينية بقيت منتشرة في أوساطهم. وكأنّ جغرافيا الشتات جُنِّدت لخدمة هذه الحكاية.
يتبع