آفاق حرة
فراس حج محمد/ فلسطين
أسوأ ما يقوم به شعب ومثقّفون وشعراء وملحّنون ومغنّون وإعلاميّون ونقابيّون وأحزاب وسياسيّون هو صناعة دكتاتور. نحن في أسوأ مرحلة من المرحلة الأسوأ في تاريخنا ونمجّد الأشخاص ونصنع دكتاتوراً.
الأمر ليس بسيطاً أو هيّناً، يبدأ بكلمة وبيت شعر، ولكنّه سينتهي إلى منظومة فكريّة كاملة ونهج سياسي وحياتي راسخ، وستجد بعد فترة شبّيحة له يدافعون عنه. ولماذا بعد فترة؟ إنّهم موجودون الآن شبّيحة النظام السياسي. موجودون على الفيسبوك ذباباً إلكترونيّاً أزرق عفناً. كما أنّهم موجودون في الشارع والمؤسّسات. ففي كلّ مؤسّسة مهما كانت طبيعة عملها هناك شبّيحة يحرسون الفساد من الانهيار. قد يكون رأس المؤسّسة نفسه وقد يكون الأدنى منه. وقد تتحوّل المؤسّسة كلّها إلى مجموعة شبّيحة تدافع عن الفساد وتتنمّر ضدّ المجتمع.
مبادرتان شهدتهما الساحة الفلسطينيّة في السنوات الأخيرة، كانتا تومئ إلى تمجيد الأشخاص، وترسيخ ما جابهه المثقّف الفلسطينيّ الواعي خلال عقود من النضال الثقافي والسياسي، مبادرة “رئيسنا قدوتنا”، وأوبريت “ملاك السلام”، مبادرتان لهما التوجّه نفسه في تصنيم الحاكم ورفعه إلى رتبة غير بشريّة، وقد تصدّى المثقّفون عموماً إلى المبادرة الأولى “رئيسنا قدوتنا”، وأفشلوا مشروع تعميم كتاب “رئيسنا قدوتنا” على المدارس، لتفرض دراسته على الطلّاب، واعتبار ما جاء فيه مقدّساً، ويستحقّ أن يدرس وأن يخلّد وأن يحتذى به. ففي الوقت الذي يسعى فيه المثقّف بنزع “برنس القداسة” عن شخصيات تاريخيّة لها إنجازاتها المهمّة التي لا يشكّ بها أحد، ويناضل من أجل تأريضها وإثبات بشريّتها المحضة وإخضاعها للمسائلة البحثيّة الصادقة والموضوعيّة، أتت هذه المبادرة لتضرب الأساس الفلسفي الذي يعمل عليه المثقّف الفلسطينيّ، فتروّج لصناعة “قدوة” ذات أعمال لا يُنظر إليها إلّا أنّها نهج سياسي مرحلي لا يدوم ومن طبيعته أنّه لا يدوم، نهج يتّفق معه من يتّفق، وله من يختلف معه وعليه، فلا يشكّل والحالة هذه أن يكون “قدوة” أو أساساً صالحاً ليكون كذلك.
أمّا الأوبريت فإنّه يدلّ على أنّ من قام بكتابته لا يتمتع بأيّ نوع من المسؤوليّة تجاه الثقافة أوّلاً، وثانياً تجاه نفسه، فلو كان هناك سلام لكان منطقيّاً، لكنْ أن يولد الأوبريت في ظلّ أسوأ وضع فلسطينيّ سياسيّاً واقتصاديّاً هنا تكون الكارثة حيث انعدام كلّ فرص السلام الحقيقي، وليس على الأرض سوى القتل والاعتقال والحواجز والإذلال والاستيطان والإجرام. نأتي في ظلّ هذا الوضع ونتحدث عن السلام. هنا يكون الوضع مسخرة وضحك على الشعب واستهزاء بتضحياته وإهمال لمشاكله واستبعاد لقضايا الأسرى والاستيطان وكلّ ما يعاني منه هذا الشعب الواقف على فوّهة بركان قريب الانفجار.
هنا يظهر أنّ هذا النوع من المثقّفين الذين ساهموا في إنتاج هذا العمل: كاتب الكلمات، والملحّن، والموزّع، والموسيقيّين وتسجيل الأغنية، وكلّ ما يتطلّب ذلك من عملٍ إعلاميٍّ هم نتاج وضع سياسيّ وفكريّ غير مستقيم، وهم عناوين مرحلة بائسة جدّاً في تاريخ الأغنية الفلسطينيّة المقاومة. تلك الأغنية التي أنتجها كتّاب وملحّنون وفنّانون عظماء كانت تتلاشى ذاتيّتهم لتبرز الفكرة، ولم تكن تحفل الأغنية الوطنيّة الفلسطينيّة آنذاك بالشخص أيّاً كان موقعه، بل شاعت فيها مفردات العمل النضالي المرتبط بالشعب والأبطال على أرض الواقع.
لعلّ تينك المبادرتين قد ماتتا، ولم يعد يلتفت إليهما، لكنّهما يوفّران فرصة وأرضيّة لصناعة المثقّف السلطوي المدجّن الذي يسير في ركاب النظام الحاكم، ويسبّح بأمره، وهذا ما يلاحظه المتابع للشؤون الثقافيّة الفلسطينيّة، وكيف تتمّ- مثلاً- انتخابات اتّحاد الكتّاب الفلسطينيّين، إذ لا بدّ من أن يكون الأمين العامّ والأعضاء من حزب السلطة والأحزاب الموالية لها والداخلة بشراكة سياسيّة معها، فلا أعضاء مستقلّون إلّا إعلاميّاً، وهم في الحقيقة محسوبون على الحزب الحاكم، ولا انتخابات نزيهة ألبتّة، ولا أعضاء من أحزاب أخرى، كحماس والجهاد الإسلامي مثلاً. هذه الحالة الثقافية المرَضية أنتجت كياناً ثقافيّاً نقابيّاً هزيلاً، تابعاً للسلطة ولأجندتها السياسيّة وبوقاً لسياستها، فيسكت عندما يرى أنّه لا بدّ من الصمت، والصمت عندئذٍ علامة موالاة وليس علامة رضا فقط، ويرفع عقيرته بالصراخ عندما يُطلب منه ذلك، ولا أدلّ على ذلك من موقف الاتّحاد من تطبيع دولتي الإمارات والبحرين لعلاقتهما مع دولة الاحتلال، فقد هاجم الاتّحاد الدولتين بمفردات سلطويّة بداية الأحداث، ولكنّه صمت وبسذاجة مطلقة عندما أعادت السلطة العلاقات الدبلوماسيّة مع دولتي الإمارات والبحرين، وكأنّ الاتّحاد لا يسمع ولا يرى، لأنّه لا يحسن الكلام في مثل هذه المواقف، فلا يريد أن يُحرج نفسه مع وليّ نعمائه ومناصب أعضائه؛ الأمين العام والمعاونين له. وعلى العموم، فإنّ تتبّع مواقف اتّحاد الكتّاب السلطويّة المتناقضة يلزمها دراسة مفصّلة ليس هذا هو محلّها. قد أتفرّغ لها يوماً ما ليرى المتابع أيّ نوع من المثقّفين كان يضمّ هذا الاتّحاد. حالة أنتجها النظام السياسي في سيطرته على المثقّف ليحتويه ويجعله “حذاء” ينتعله متى ما أراد ذلك، ورأى أنّه من مصلحته كدكتاتور أن يفعل ذلك.
إنّ ما وقع فيه، مجبراً أو مختاراً، اتّحاد الكتّاب وقعت فيه اتّحادات أخرى، ولعلّ أهمّ اتّحاد من ناحية ثقافيّة بعد اتّحاد الكتّاب هو اتّحاد المعلّمين، بل إنّ خطر اتّحاد المعلّمين أشدّ تأثيراً من اتّحاد الكتّاب، نظراً للمساحة التي يتحرّك فيها هذا الاتّحاد؛ وهي المدارس، وتعدّى عمله الناحية النقابيّة المتّصلة بحقوق المعلّمين والدفاع عنها- تلك الحقوق التي قصّر فيها الاتّحاد كما يرى المعلّمون- إلى التدخل في شؤون التعليم، بل وتجرأ أحياناً على أن ينازع وزارة التربية والتعليم عملها ودورها، ويتّخذ عنها قرارات تمسّ العمليّة التعليميّة، ناهيك عن دوره السياسي الداعم للسلطة، فقد تكوّن وولد بالعقليّة ذاتها التي ولد بها اتّحاد الكتّاب، ولذلك فهما- مع الاتّحادات الأخرى- دعامتان أساسيّتان للسلطة، فليس فيه مستقلّون، ولا يسمح لأبناء الحركات الأخرى أن يكونوا فيه.
بسبب هذا الوضع للاتّحادين صار ينظر إلى إليهما نظرة التابعيّة، وأنّهما ليسا أكثر من منفّذين لما يقرّره الجانب الأمني في السلطة، ولذلك فقدا الثقة بين جمهور المثقّفين والمعلّمين والطلّاب، وأنتج حركة من التملل والتمرّد ضدّ ما يقومان به، فلم يعد المعلّمون مثلاً يثقون بدعوات الاتّحاد للإضراب؛ معتبرين ذلك مسرحيّة وتمثيلاً، وراءها مكاسب خاصّة ونفعيّة لأعضاء الاتّحاد أو للتغطية على أعمال السلطة السياسيّة، أو للالتفاف على التحركات الاحتجاجيّة في الميدان التربوي الخارجة عن سيطرة الاتّحاد والأجهزة الأمنيّة، فصاحب المصلحة هو من يصدق الاتّحادين علانية، ولكنّه بينه وبين نفسه يرى أنّهما كيانان تدجينيان تابعان، وليسا ديمقراطيّين نهائيّاً، وإنّما يمارسان الدكتاتوريّة على وهج من تلميع صورة الدكتاتور الأكبر المتربّع على عرشه، متمسّكاً بالكرسي، ويقول كما قال غيره “أنا ربكم الأعلى“، ولا يؤمن بفكرة تداول السلطة أو الشراكة الحقيقيّة، فأنتج هذا طبيعيّاً المثقّف المقولب الذي يؤمّن على قول الدكتاتور ويرضى أن يسايره وأن يكون له ظلّاً أحياناً، وأحياناً أحطّ من ذلك، ويتابعه طمعاً في منصب أو حتّى صورة عابرة ينشرها على حسابه في الفيسبوك، رافضاً كالدكتاتور تماماً فكرة الديمقراطيّة الحقيقيّة ويستبعد إمكانية تداول السلطة، فهو هو، وإمّا لا أحد، هذا لسان حال الدكتاتور الثقافي الذي صنعه الدكتاتور السياسي الذي هو بدوره أيضاً صنعه وحماه الدكتاتور الثقافي. فأيُّ مسخٍ ثقافيّ أنتج الدكتاتور؟ وأيُّ دكتاتورٍ مسخٍ لمّعه المثقّف المزيّف، وجعله إلهاً علّق صورته على حائط ليقدّسها كلّما هلّ صبح جديد؟
إنّ ما وصله المثقّف من حال متردّية يلزمها “ثورة” شاملة على كلّ تلك الأسس العفنة، وترسيخ أسس فاعلة، تساهم في إعادة إنتاج ثقافة مقاومة، ليس للاحتلال فقط، بل مقاومة لكلّ الفكر الفئوي الفاسد الذي يريد أن يحصر المثقّفين فيه، فالمثقّف ضمير الأمّة، أفإن مات الضمير ما معنى أن تكون مثقّفاً أساساً؟