كتبت: الشاعرة فابيولا بدوي
الحلقة (5):
نضال الإنستجرام وغيره…لغة الصراخ الآمن
كل عصر له مناضلوه. وفي عصر الصورة والهاشتاج واللايك، ظهر مناضلون جدد: لا يحملون سلاحًا، ولا يعيشون المأساة، لكنهم يعرفون جيدًا كيف يصنعون صورة المناضل الذي لا يُمس.
يسمّون أنفسهم نشطاء، مفكرين، صناع رأي… لكن كل معركتهم تدار من شاشة.
صراخهم محسوب، وجرأتهم مرشوشة بملطفات لغوية، ومعارضتهم تنتهي عند أول خسارة ممكنة.
من هو المناضل الورقي؟
هو الذي يتبنّى كل القضايا الكبرى، ويشجب كل المظالم، ويكتب عن الحرية والعدالة والكرامة… لكن من مسافة آمنة.
لا يقف يومًا في وجه سلطة، لا يذكر جهة مسؤولة، لا يتحمّل كلفة موقف. كل ما يفعله هو إنتاج نضال استهلاكي، سريع، سهل الهضم، مُفلتر لغويًا، بلا أثر حقيقي.
هو مناضل في الورق… وفي المنشورات من بوست أو تويتة فقط.
نضال الإنستجرام: صناعة البطولة الافتراضية
كل صورة تُنشر له تبدو وكأنها من قلب معركة. نظرات التحدي، الكلمات الحادة، الخلفيات الرمزية… لكنه في الحقيقة لم يغادر مقهاه المفضل.
يتحدث عن الثورة، لكن لا يتحمّل خلافًا بسيطًا في تعليق.
يستخدم وسم #الحرية، لكنه يحظر من يختلف معه.
النضال عنده عرض بصري، لا معركة فكرية أو إنسانية.
لغة الصراخ الآمن:
المناضل الورقي يصرخ، لكن بأمان:
– ينتقد السلطة بوصفها “البنية”، لا المؤسسة.
– يرفض الظلم، دون أن يسمي الظالم.
– يعلن انحيازه للفقراء، من فندق خمس نجوم، قد يدفع فاتورته غيره.
هذا الصراخ لا يؤلم أحدًا. لا يُحدث صدعًا. لا يُرعب أحدًا. هو فقط يمنحه شرعية نضالية رمزية في عالم لا يطالب منه بأكثر من منشور.
خوف من الخسارة لا من القمع:
المناضل الورقي لا يخشى القمع بقدر ما يخشى فقدان صورته.
يحسب خطواته بدقة: من ينتقد؟ من يتجاهل؟ من يهاجم؟
يتحدث عن الشجاعة… لكنه لا ينشر رأيًا دون مراجعة جمهور المتابعين.
النضال، في نظره، هو ما لا يُزعج الراحة ولا يُقصي من المهرجانات الثقافية.
تعقيد اللغة بدل وضوح الموقف:
المناضل الورقي يحب اللغة الغامضة:
– خطاب فوقي،
– مصطلحات أكاديمية،
– شعارات عريضة،
لكنه لا يعبّر عن موقف. يظن أن كثرة الكلام تغني عن اتخاذ موقف واضح. ولذلك، لا يُحاسَب، ولا يُسأل، ولا يُقلق أحدًا.
نضال لا يكلّف شيئًا:
الفرق بين المناضل الحقيقي والمناضل الورقي؟ الثمن.
المناضل الحقيقي فقد منصبًا، أو سُجن، أو طُرد، أو هُدّد، أو شُوّه، لكنه بقي. أما الورقي… فازداد بريقًا.
هو يعرف اللعبة جيدًا: كيف يكون معارضًا دون خسارة؟ وكيف يبدو ثائرًا دون اشتباك؟
إنه ببساطة: نضال بلا جلد.
الاستبداد يحب هذا النوع من المناضلين:
لأنهم يملأون الفراغ، ويقدّمون صورة زائفة عن وجود معارضة، دون أي أثر حقيقي.
هم أكثر أمانًا من الصمت، لأنهم يُخدّرون الغضب بكلام مشذّب. يجعلون الناس تظن أن هناك من يقاوم، في حين أن كل شيء يسير كما هو.
إنهم جدار صدّ ناعم ضد الوعي الحقيقي.
المؤكد أنه:
لا يهدد النظام من يصرخ… بل من يصمت كي يفكر.
ولا يغير من يكتب كثيرًا… بل من يخسر أشياء كثيرة ليبقى صادقًا.
المناضل الورقي ليس ظاهرة عرضية، بل هو جزء من بنية الوهم الثقافي الذي يعيد إنتاج الاستكانة تحت مسمى المقاومة.
ولذلك، لا بد أن نسأل: كم من نضالاتنا كانت حقيقية؟ وكم منها كانت مجرد طقوس لتزيين العجز؟