بقلم:الشاعرة:فابيولا بدوي
🔴 الحلقة (3):
نخبويو المصلحة – حين تُصاغ الإيديولوجيات لخدمة الذات
لا أحد يخرج إلى الناس قائلًا: “أنا هنا لأصنع لنفسي سلطة رمزية”.
لكن في الواقع، هذا ما يفعله كثير من المنتمين لما يُسمى بالنخبة الفكرية أو الثقافية.
وربما لا يكونون واعين بذلك دومًا… لكنهم يصوغون الخطاب، يطوّعون المبادئ، يختارون معاركهم بعناية، كل هذا من أجل غاية واحدة:
أن يخدم الفكر الذات، لا أن تذوب الذات في الفكرة.
النخبة بوصفها منصبًا لا وظيفة:
مع مرور الوقت، تحوّل المثقف أو الناشط أو المفكر من فاعل حر، إلى صورة نمطية محفوظة:
من يرتدي عباءة الفكرة، ويتحدث بلغة المؤدلج، ويُمارس نضاله عبر كلمات مصقولة بعناية. لكن السؤال: ما الثمن؟ وما المقابل؟
غالبًا: مكانة، علاقة مع سلطة، شهرة، دعوات إلى المؤتمرات، أو جمهور يُمجّد دون مساءلة.
حين تُفصّل الإيديولوجيا على قياس المصلحة:
– اليساري الذي لا يرى تناقضًا في أن يعيش على معاناة الفقراء بينما يُحدّثك عن البروليتاريا.
– الليبرالي الذي يُدافع عن الحرية لكنه يُقصي المختلفين معه فكريًا.
– الإسلامي الذي يدعو للزهد والعدل وهو يمارس الاستعلاء السلطوي على المختلفين معه.
هؤلاء لا يُمارسون النضال، بل يُمارسون التكيّف.
يوجّهون خطابهم ليبقى في المنطقة الآمنة: لا يغضب السلطة، ولا يُربك الجمهور، ولا يخدش صورته الذاتية.
منابر محسوبة، وخطابات مبرمجة:
الظهور المستمر لبعض النخب في الإعلام ليس دليلًا على تأثيرهم، بل على قبولهم بشروط اللعبة:
– لا تقترب من الخطوط الحمراء.
– اجعل خطابك عائمًا.
– لا تتورط في الدفاع الحقيقي عن الضحايا.
هكذا يصنع الإعلام نخبته المفضلة: مزيج من اللغة الجميلة، والتوازن السياسي، والنص الميتافيزيقي الخالي من الألم الحقيقي.
السوشيال ميديا وصناعة وهم التأثير:
في عصر الشاشة، صار بإمكان أي شخص أن يصعد كـ”نخبة” في أيام قليلة:
– تغريدات ساخرة،
– مقاطع قصيرة مؤثرة،
– صور في اجتماعات
– وكمية ضخمة من المتابعين.
لكن كل هذا قد يُخفي وراءه خواء فكري، وافتقارًا للتماس مع الواقع، بل وعدم استعداد حقيقي للتضحية أو المواجهة.
النخبة هنا ليست من تُنتج وعيًا… بل من تُتقن اللعبة البصرية، فتبيع وهمًا مغلّفًا بثقافة سريعة الهضم.
جنون الألقاب المزيفة بين المثقفين:
كأننا أمام سوق للألقاب، لا ميدان للأفكار.
إليك بعض العناوين التي تُستخدم ببراعة لتضليل المتلقي وإقناعه بأن أمامه شخصية عظيمة:
– “المثقف العضوي”: لم يقرأ غرامشي، لكن يُحب أن يُعرّف نفسه بوصفه امتدادًا لفكرة لم يعشها.
– “سفير النوايا الحسنة”: لا نعرف من منحه اللقب، لكنه يستخدمه لتسويق نفسه كملاك بشري.
– “الدكتور الذي لا يُجمّل اللقب”: لا يُجمّله لأنه ليس حقيقيًا أصلًا.
– “الشاعر الكروان”: شاعر صوت لا شاعر فكرة.
– “شاعر العشق”: يحوّل العاطفة إلى ديكور لتصدير الرقة المزيفة.
– “إله النقد”: ينتقد الجميع… إلا ذاته.
– “الخبير الاستراتيجي”: صفة عامة لكل من يُجيد التنظير بلا تطبيق.
– “المتخصص في شؤون كذا”: لأن التخصص يمنح شرعية إعلامية، ولو بلا خلفية علمية.
– “الناشط الثوري”: لا ثورة ولا نضال، فقط نشاط رقمي من خلف الشاشة.
– “الداعية الشاب”: وسامة، حلاوة لسان، خطاب ناعم… لكن دون محتوى يُحرر أو يُواجه.
عندما تصبح المبادئ مجرد واجهة:
الخطر هنا ليس فقط في الأفراد، بل في البنية التي تُكافئ الزيف:
– الجمهور يُحب البطل.
– الإعلام يُحب من لا يصادم.
– الأنظمة تُحب من يُعارض بذكاء لا يوجع.
وهكذا، تصبح كل إيديولوجيا مجرد وسيلة لإنتاج ذات مثقفة شكليًا… لا تحمل من الخطر إلا ما يسمح لها بالبقاء.
في النهاية:
نخبويو المصلحة لا يختلفون كثيرًا عن تجّار الخرافة التقليديين.
كلاهما يعرف ما يريده الناس، ويقدّمه لهم بغلاف مُضلِّل.
لكن الفرق أن المشعوذ لا يدّعي أنه مفكر… بينما المفكر المزيف يدّعي النقاء وهو غارق حتى أذنيه في حسابات السوق والمكانة.
ولذلك، لا يكفي أن ننتقد الأوهام الشعبية… بل لا بد من فضح الأوهام النخبوية، التي تُباع تحت اسم التنوير والتغيير.