داخل كل بوتقة من الأسرار، قدرٌ يُمهّد الطريق نحو قدر آخر. كان هذا أول ما طرق رأسي للوهلةِ الأولى بصحوٍ لم أدرك كُنهه في ذلك الصباح الباكر على غير عادته، وأنا واقفة هناك مذهولة أمام الباب نصف المفتوح، أتمتمُ في سري وكأنني أحدث نفسي بانبهارٍ عظيم:
— من تكون روحه حرّة بهذا الجمال لا يخاف، ولا يمكن أن يكون وحيداً..!
داهمتني الدهشة، وانفرط قلبي بسعادة لم أفلح في إخفائها.. لا أفعل شيئاً سوى النظر إلى طائر “حسون” صغير، وجدته فجأة أمامي يرفرف جناحيه بألفةٍ وهدوءٍ غريبين، دون أن يصدر جلبة واضحة، وهو يدور حول نفسه عدة مرات، قبل أن يركّ على جذع شجرة “بلوط” كبيرة ومعمّرة، تأخذ مساحة كبيرة في طرف الشارع، وتتناثر أغصانها الصفراء المترامية بإهمالٍ على أرضية مدخل الباب الأمامي للمنزل، وقد بعثرتها الرياح وبللتها بقايا أمطار الخريف.
كنتُ خارجة لتوي من البيت في طريقي إلى العمل، أفرك يديّ ببعضهما في محاولة مستميتة للدفء، وقد فتنتني طلّة الصباح الممطر بزخاته المنهمرة.
انفردت تباريح وجهي بانبساطٍ غامر تلبّسني تماماً. كنتُ مأخوذة بالمشهد الساحر الذي وقعت عليه عيناي هذا الصباح، وأنا ما زلتُ أرابطُ في مكاني، أستمع بهدوء تام إلى صوت الطائر العذب وهو يصدر تغريداً متواصلاً.
وقفتُ ساكنة وأنا أتمعن فيه النظر عن قرب وكأنني لم أر طائر “حسون” من قبل.
جمال ريشه المتعدد بالألوان الزاهية، الأبيض والأصفر يتناثران بلمعانٍ جميل، والبنيّ يُظلله القليل من الرمادي على أطراف ذيله، ويغطي الريش الأصفر والأبيض أطراف جناحيه الصغيرين، ليتوزع اللون الأحمر القرمزي حتى مقدمة رأسه، وينتشر في تشكيلٍ استثنائي مع بقية الألوان على جسده الصغير. كان يطبق جناحيه بارتعاشٍ واضح، ويفردهما باتساعٍ، ينفض عنهما قطرات الماء الباردة التي بلّت جناحيه ومقدمة رأسه الأشعث المتداخل بريشٍ خفيفٍ يغطي نصف وجهه.
اقتربت منه بخطوة واحدة فقط، وأنا أحبس دهشتي وأتبعه بصمت وهو يتأرجح بخفة على جذع الشجرة، يرمش بعينيه الصغيرتين مثل حبات الخرز اللامعة، يتلفت يمينه ويساره في حركةٍ دائريةٍ منتظمة ينبعث منها بريق ساحر ونوع مبهم من السكون يُظلل المكان من حوله، رغم ضجيج الشارع المتكدس بالمارة والأصوات وأبواق السيارات من حين لآخر.
كان يرفرف بجناحيه الصغيرين في قفزاتٍ قصيرة وسريعة، يعلو ويهبط بهما على جذع الشجرة دون خوف، كأنه كان يألف المكان، الوجوه، ألوان البيوت، أزقة ممراتها الضيقة، ورائحة شجرة “البلوط” الراسخة بجذورها في المكان، تواجه تقلبات الزمن، تشهد على حيوات تأتي وتمضي وهي باقية دون أن تنكسر، تعيد ولادتها في كل الفصول المرة تلو الأخرى كما هي الحياة، لا تنتهي إلا لتبدأ من جديد في رحلة دورانها العجائبي!
وقفتُ لهنيهةٍ أستردُّ لهاث دهشتي تلك، دون أن أتزحزح من مكاني.
كان الأمر بالنسبة لي غير مألوفٍ، أن أرى طائر حسون بهذا الجمال، يقف بهدوءٍ، ووحيداً دون رفقة يستأنس بها في هذا البرد الصباحي على جذع شجرة “بلوط” كبيرة تتفرع أغصانها العارية على مقربةٍ من عتبةِ بيتي الواقع على مدخل زقاق طويل يقود في نهايته إلى الشارع العام، حيث تبدأ الحياة بصخب يومياتها العادية، والله وحده يدري بدروبِ مساراتها السارحة من كل صوب.
كانت شمس الشتاء قد ابتلعتها غيوم شهر يناير المبكرة بعواصفها الباردة، وعقارب الساعة في ذلك الصباح الضبابي تشير إلى السابعة وخمس وأربعين دقيقة.
الشارع الطويل أمام منزلي المؤدي في نهايته إلى الطريق العام كان يعجّ بزحمةِ السيارات والمارة.
كان أصحاب المحلات الصغيرة منهمكين في لقمة أرزاقهم، غير عابئين بطلبة المدارس يهدرون بلغطٍ عالٍ، يهرولون بعجلةٍ للحاق بمواعيد الباصات التي لا تنتظر أحداً.. تتبعهنّ ضحكات الصبايا على استحياءٍ، وهنّ يسترقن وشيش الكلام.
تسمّرت في وقفتي هناك على عتبة الباب، وأنا أبدو كالخرقاء، غير عابئة بنظرات المارة التي كانت تشاركني دهشة الحال..
أجرّب أن أختلس بعضاً مما اعتراني من فرحٍ وارتباكٍ مباغت.. فيما يشبه ذاك البريق السحري الذي أسرني به طائر “الحسون” الصغير، وهو يرسل تغريداً متواصلاً بصوتٍ شجيّ غاية في العذوبة، وقد جلب معه الفرح وأسرار ما لاقاه من قصصٍ وحكاياتٍ كأنه يقرني بها السلام!
ما حدث معي في ذلك الصباح كان شيئاً أشبه بالنقشِ على القلبِ، حالة خاصة من السلام.. تشبه لحظات الغبطة الحميمة وأساطيرها التي تسوقك حكاياتها نحو ألفةٍ حميمة من نوعٍ آخر، وحدك تعرف أسرارها وطعم تفاصيلها حين تتشبث بك، تتبعها مطمئناً دون أن تدع لك مجالاً للأسئلة!
هممتُ وأنا أردّد لنفسي بابتسامةٍ خفيّة فضحت تباريح وجهي:
— ثمة قدرة قوية تحوم حولي هذا الصباح!
وتذكرتُ تمتمات أمي الصباحية التي تتبعني منذ ولادتي، إيمانها الراسخ بما يدور بخلدها، أحاديثها التي تشبه اليقين و”الفأل الحسن” دون أن يخذلها حدسها الفطن في يومٍ من الأيام أبداً. وأنا التي لا أكاد أبارح استكانة صوتها الهادئ منذ تلك الطفولة المبكرة، وهي ترتّل سورة الرحمن بشدوٍ ينسرب بسلام في أرجاء الحوش، يأتيني وشيشاً منذ غبش الفجر وحتى ساعات الصباح الأولى.
أفرك حبات النعاس من عينيّ بفترٍ لذيذ، أجدني هناك بقربها، حيث أسمعها وهي تردد ترتيلاتها وتحدث الله بمحبةٍ وإيمانٍ آسر بالعذوبةِ، ما زلتُ أحمله معي، يبعث حولي شعوراً غير قابل للوصف، تملأ به الحوش بحركتها الدؤوبة، وهي تروح وتجئ بحيويتها المعروفة بها، تعد نار الصباح، تملأ براد الشاي الكبير بالماء والسكر وتدعه يغلي بهدوء على نار الفحم المتقدة في الكانون الصغير، أمام باب القطيّة، وأنا أرخ السمع لمتعة كركعة غليان أبخرة الماء المتصاعدة بنكهة الهيل والقرفة، تنسرب إلى داخل القطيّة، وأمي في طقوس سعيها الصباحي لا تَكِلُّ ولا تَمَلّ، وهي تستعد لأداء صلاة الفجر الأولى، قبل قدوم أبي بعد انتهائه من نوبة عمله الليلي في بوليس السواري، الذي يواصل حتى ساعات الصباح الأولى. وأمّيْ في طقوس سعيها الصباحي لا تَكِلُّ ولا تَمِلْ، وهي تستعد لأداء صلاة الفجر الأولى، قبل قدوم أبي بعد إنتهائه من نوبة عمله الليلي في بوليس السواري، الذي يواصل حتى ساعات الصباح الأولى.
يسرج فرسه أمام باب الشارع الخلفي للحوش ويلقي السلام على أهل بيته النيام ببشاشةِِ حانية، وهو يحمل معه رغيف الخبز الحار وقرطاس السكر والدقيق والبُنْ والبلح.
تهرع أمّي كعادتها لاستقباله ببشاشتها الهادئة، تحمل عنه ما جلبه من فرح وخيرات، لتبدأ بعدها بإعداد جبنة الصباح الباكرة واللقيمات وشاي اللبن المقنّن. ويبدأ يومها الذي لا ينتهي أبداََ.
يداهمني صمت حنون ومُدهش، اندسَّ بكسل تحت غطاء السرير من جديد، أرقب محبة الله ورضاه التي تشرق على ملامح “أمّي” ووجهها المسالم، وشعور عارم بالغبطة يلازمني، ينتقل ليحوم في أرجاء الحوش الماهل.
أجد نفسي دون سابق إنذار أنفض عني أثر النعاس اللذيذ، وأتلبس من طرف السرير، ألتحف معي طرحة “أمّي” الزاهية الألوان كخميلة كما تعوّدتُ منذ طفولتي، أتلفّف بها وأركض في أرجاء الحوش لا ألوى على شيء، والكثير من التفاصيل التي كانت تطفح بي، وكأنّه سيُلقي القبض عليّ وأنا متلبّسة بهفهفة الحلم!
انتظر بترقب ولهفة شديدة الدقائق أو اللحظات الأخيرة قبل أن تنتهي “أمّي” من أداء صلاتها، لأحشر نفسي بقربها في وسط “المِصلاية” بشعور تلقائي يصعب مقاومته. أختلس وأنصت للفرح كيف يتسامى بقربها وهي تتربّع في محراب سجودها بهدوء مُقدّس، يتبعها صحو القلب يضيء كل شيء، وما تنثره حولنا من الحكايات الدافئة بمحبة لا يجيد صنعها سوى الأمهات.
إحساس دافئ وصافٍ بالأمان وأنا في حضنها، لا أفعل شيئًا سوى احتواء صلوات قلبها تلك، وهي تُناديني، وتواصل شدو تمتماتها الربّانية:
— بركات الرحمن هنا يا بنيّة، لا تزال عالقة على أهداب القلب. وتواصل حديثها:
— باب الملائكة مفتوح، قولي معاي… آمين.
أردد معها: آميييين آميييين، فيما يشبه الشدو بترنيمات لها شعور لا يُوصف، وباليد الأخرى، تمسح على شعر رأسي، تلملمه بحنان بالغ في فجّة واحدة، وتخبرني بطريقتها الخاصة تلك؛ أنّ كل شيء مهما عظم أمره، سيمضي بهدوء كما قُدّر له أن يحدث، وأنّ محبة الله لخلائق الدنيا دي كلها، لا يخطئها قلب بصير!
وتناديني باسمي دون أن تقطع من حبل دعواتها، ترمقني بتلك النظرة الحانية. فيها من السكينة ما يجعلني أغفو بقربها.
وحدها “أمّي”، تصنع براحات ذاك الفرح، لتنفلق بعدها نواة الحياة في أرجاءِ الدنيا كلها، باتساع لا أول له ولا آخر!
وجدتني اقترب من جزع الشجرة، وابتسامتي تتّسع، تملؤني، تفضح كل ما بي من ارتباك. حالة خاصة من الفرح وسعادة عظيمة تضيء جنبات الروح والداخل كما تفعلها “أمّي” تشعر بها تنتظرك وكأنك قد مررت بها ولامست قلبك.
كان هذا شعوري وأنا اقترب نحو طائر “الحسّون” بخطوات قصيرة وثابتة، وشمس الشتاء الباردة تتسلل بلونها البرنوزي مشرقة ودافئة من بين فروع الشجرة، وقد زالت عني رهبة الارتباك، وبدت الأشياء في ذلك الصباح مريحة من كل ما يُقيّد حريتك، مثل خِفّة طائر “الحسّون” كأنه جلب معه الفرح من بعيد.. ويقرّني به السلام.
استعدت اتزاني وأنا مازلت غارقة في دهشتي بهذه السكينة والألفة التي عمّت المكان. رفعت رأسي نحو جزع الشجرة بهدوء شديد حتى لا أفزع الطائر الصغير، وهمست له وأنا أداري حذري بووشوشة خافتة تشبه مناداة “أمّي” لي:
ـ سأناديك، قرنفل.
هكذا نطقت باسمه دون تفكير مسبق كأنني كنت على علم به من قبل، (ربما)…
لا أدري لماذا فتحت حقيبة يدي الزرقاء، ودون شعور عبثت بيدي داخل الحقيبة وأخرجت بعضًا من حبات “الزبيب” التي كنت أحملها معي، ملأتُ بها يدي ومددتها بحركة لا شعورية نحو الطائر الصغير. كانت دعوة غير منتظرة تُغري بالتجاسر، وللحظة باغتتني فرحة كبيرة لم تكن في الحسبان أبدًا.
تكوّر طائر “الحسّون” بهدوء في باطن يديَّ وبدأ ينقر عليهما بمنقاره الصغير نقرات خفيفة يلتقط بها حبات الزبيب الطرية الطاعمة ويفتّتها إلى أجزاء صغيرة ويرفع رأسه الأشعث بين الحين والآخر دون وجل، ويعاود النقر من جديد بسرعات متواصلة وأنا أحبس ضحكة كادت أن تنفلت من القلب.
تذكرتُ حكايات “أمّي” المنقوشة في ذاكرتي، دفء غامر سرى في أوصالي الباردة، والطائر الصغير “قرنفل” ينفض بجناحيه بين الفينة والفينة، وشعور بالإلفة يتنامى بيننا، وأنا أغالب ضحكتي التي تشتّت دون أن أفلح في الإمساك بها. همستُ وابتسامتي الجزلى تزداد اتساعًا:
— ما أجملك من طائر، وهذا الـ “قرنفل”، يليق بك.
إحساس بالغ بالهدوء غمرني، مثله تمامًا وأنا أمسح بطرف إصبعي على ريشه الناعم وقد بسط جسمه الصغير يلتقط ما تبقى من قطع حبات الزبيب المتناثرة على راحة يدي دون وجل!
ثمة شعور يصدّق حدسي، بدا لي جليًا في رؤاه، بأن هذه لن تكون المرة الأخيرة، وبأن الطائر الصغير “قرنفل” سيعاود الزيارة، وبرفقة حميمة معه (ربما) وهو يجوب نحو هجرة أخرى في بلاد الله، وحيوات أخرى في فناء عالمه الشاسع.
أمسكت به برفق وهو يرتعش بغبطة ظاهرة عليه، ورفعته بكلتا يديَّ عاليًا عاليًا حتى كاد ريشه الخفيف يلامس وجهي، وأفلتّه وكأنها خفقات قلبه الصغير تطير معه!
رفع جناحيه بسرعة فائقة، بدا لي أكبر بكثير من حجمه الصغير عندما كان على جزع تلك الشجرة، وأنا أتابع تحليقه العالي وهو يرتفع في علوِّ السماء، وجناحيه ينتفضان باتساع يحازي المدى، يتأرجح بهما ويحلق حرًا حرًا بكل الاتجاهات، وجميلًا حيث يكون.
خيّل لي أن أروح أخرى نسجت نولا متشابكًا بالبهجةِ والألوان، إذ تسللت أشعة الشمس ساطعة بلونها البرونزي الجميل، تتخلّل فروع شجرة “البلوط” الكبيرة المترامية بأطرافها العارية، وقد إخضرّت أغصان جزوعها وتدلّت مثل دانية العنب، دبّت فيها الحياة من جديد. بدت نضرة وزاهية، تهتز مثل صلصال يتمايل بأصوات خافتة ومتناغمة بشدوها الباهي.
رفعت بصري للأعلى أتابع حركة تحليق دوران الطائر الصغير “قرنفل” وأودعه وهو يرتفع بجناحيه عاليًا في فضاء رحب، يطبقهما بقوة وينفض بهما الهواء، محدثًا صوتًا عاليًا في انفراد شاسع قبل أن يتوارى خلف السحاب.
أحسست بخفة غريبة وساطعة، تتصاعد بي، تسري في روحي.. وكأنني أنا الأخرى.. كنت أحلق معه.
رنّة عالية من البهجة فلتت مني، تشبه صوت “أمّي” الملائكي كلما مرّ بقربها الفرح زائرًا:
— لله درّك من صباح!
آفاق حرة للثقافة صحيفة ثقافية اجتماعية الكترونية