الى عرش قصر قرطاج تسابق السابقون، وتلاحق اللاحقون، وتراكض الراكضون الكل بين منتعل وحاف وواضع الحذاء تحت الابط…وسابق الرياح بضمير يقظ…وآخر زنديق بوجه مقتضب…وهم بين صادق وكاذب…وبين حالم وواقعي بتفكير منطقي…وبين صادح بديباجات منمقة ووعود حقيقية واخرى زائفة مزحلقة قادر عليها وغير قادر…للشعب وجه الخطاب ذو اجنحة الاحلام الطائر ليشتري الالقاب والاشرعة… قرطاج بلا قفل ولا أبواب…عرشه بلاصولجان…ولا محراب…فتحت الابواب كرسيه بلا متكئ …سال اللعاب…خلعت عارضة الباب…الكل يريد كتاب كلمة في كتاب…الى قصر قرطاج غاية الولوج…به الاقامة ومنه الاقتراب…سال اللعاب والكل اراد من قرطاج شرب ماء الرضاب بين الخطإ والصواب.. هبوا وجرجرت الاقدام بين زاحف…وقائم…وحائم…وعائم…كل يبحث عن ممولين لا ممول…ومشجعين بالتصفيق والتهليل والتطبيل والتكبير والفوز دون منافس…للوصول الى نهاية نقطة السباق بنجاح متفوق مكتمل… للوصول الى كرسي الحكم…وبهرجته…ومشاكله الجمة…المهمة شاقة جدا…تتطلب الدهاء والحكمة…والتبصر..والروية..والتمحص…والتفكير…وحسن التدبير…وطول النفس…وسعة البال…واتقان التزحلق بين النزاهة والمداهنة…انها لمسؤولية جسيمة…الحكم يتطلب الدهاء السياسي…والتفنن والابداع و الاتقان مع التفوق في السير في خط منعرج تارة…ومتكسر تارة اخرى…فليس بالامر السهل او البسيط الهين…عل السعي الهستيري الى سلم العرش والرقي اليه الذي لم نعهده من قبل يفرز ساعيا من ضمن العدد المهول من الساعين، حكيما داهية سياسية يملك حسن الرأي والتدبير وجودة التفكير العالية التي تمكن السياسي من أن يدير سدة الحكم وقيادته بحاله، أو يكشف عن وجه قضية بأسلوب ذكي لطف…
من لم يكن داهية جيد الراي بصيرا بالامور…ذو نظرة ثاقبة لا يمشي إلى البغية والحاجة إلاَ على خط طويل مستقيم،لا يعرف المخاتلة والتزحلق على جليد وهاد وجبال السياسة…والانزلاق بين منحدرات ومرتفعات وثنايا اسنة حرارة السياسة بالمخاتلة والمراوغة بين اِلتواءات ممرات ارتفاع درجة حمى اسنة جبالها…فإذا اعترضته عقبة شاقة المصعد، والمرتقَى تلبك فاختلطت عليه الامور والْتبست به ووقف في حيرة أو رجع على عاقبيه او ربما نكص عليهما يائسًا. والداهية ثاقب الفكر و الراي، نافذ البصيرة حاد الذكاء…وسديد الراي راجح العقل يسير بثبات في خطٍّ منحنٍ أو ملتو اومنكسرٍ ولا يبالي بطول المسافة في جانب الثقة التامة ببلوغ الغاية المطلوبة والمرجوة…
الدهاء هو قدرة عقلية من مقدرات العقل وهي سرعة تصور المعاني الغامضة، وسهولة نفوذ الفكر إلى الاهداف الخفية، وقمة الخبث أو المكر مع جودة الراي. يقوم الدهاء على طبيعة الذكاء وترتبط ارتباطا وثيقا بسرعة الفطنة وهو ايضا قدرة عقلية تتجاوب بسرعة بديهية مع الامور وذلك بعجلة تصور المعاني المبهمة وغير الواضحة، وسهولة نفوذ الفكر إلى الغاية المكتومة والمحجبة، والمبالغة مع تجاوز الحد فيه يعد سلوكا غير محمود بل مذمة او نقيصة في صاحب السياسة…لكن الدهاء بالعكس فهو قدرة أعمق من الذكاء تختص في المبادرة والانتاج كالتخطيط أو المكر أو الاحتيال أو التقمص أو التمثيل لغاية أو من أجل إثبات حقيقة وتدخل ضمن قائمتها الخدع والنصب والاحتيالات…اما الذكاء المفرط مع الغرور هو اختطاف صورة الأمر وعاقبته أو النتيجة في اندفاع من غير تثبيت في مأخذها، أو الإحاطة والادراك بحقيقتها…إذ الشأن فيمن تسطع في ذهنه شعاع خيوط ضوئية تحثه على الاقدام دون تمحص يراها صالحة وايجابية في المدلولات البعيدة فيلتفت إليها باهتمام بالغ مع التعجيل في تنفيذها دون ان يستوعبها او يتناولها من جميع جوانبها او يطيل البحث والدراسة والتمحيص في عواقبها والتأمل الى آثارها.
من لم يكن ملما بوضعية الرعية ومطالبها ولم يتبصر في شؤونها بعقل راجح وفكر ثاقب، وضمير يقظ ضاعت من بين يديه منافع كثيرة، ووقع في شباك مصيدة المكائد والخداع والمراوغة، وكم من أمة قضت عليها حماقة زعمائها وغفلة تصرفهم ببله أن تعيش في هاوية الذل والمهانة ونكد الحياة. وما استقام الحكم لبعض الحكام الدهاة الا لأنهم كانوا مع سلامة ضمائرهم وصفاء سريرتهم نافذي البصيرة في السياسة، بعيدي النظر في عواقبها. وكانوا أفضل من أن يَخْدَعوا، وأعْقَل من أن يُخدَعوا. السياسة فن وابداع واجادة حبك ادارة سدة الحكم والقيادة بحنكة وبراعة او لا تكون فهي حقا ضرب من ضروب الفنون والبراعة…كل فنٍ يكون على حسب الأخذ بقواعده، والجرأة في عبورمسالكه ومنحدراته وارتفاعاته، فهذا خبير بسياسةِ الحرب، وبصيرته في السياسة المدنية عشواء، يتصرف على غير علم بها ولا بصيرة، وآخر يدير القضايا، ويجري النظاماتِ بين الأمة في أحكم نسق، فإذا خَرَجْتَ به؛ ليخوض في صلة أمة بأخرى ضاقت عليه مسالك الرأي، وتلجلج لسانه في لُكْنَة، وربما جنح إلى السِلم والحربُ أشرف عاقبة، أو أَذَّن بحرب والصلحُ أقرب وسيلة إلى سعادة الأمة؛ فلا بدَ للدهاء في فنٍ السياسة وبراعته من الوقوف على شيء من سننه، إمَّا بتقلب الإنسان في الوقائع بنفسه ومشاهدته لها عن رؤية عين، وهي التجارب المكتسبة من الخوض في المجتمعات والالمام بتاريخ سيرة بعض الحكام الدهاة…فأناة الرئيس ورصانته ورويته وتبصره للامور هي المنبع الذي تسقى منه الأمة حريةَ الفكر، والسلم الذي تعرج منه إلى الأفق الأعلى من الأمن والسعادة والرخاء…