حينما تعلو المئذنة فوق المدرسة، لا بمعناها الروحي وإنما بمعناها السلطوي، ندرك أن المعرفة قد جرى دفنها تحت ركام الشعارات. يصبح صوت الوعظ أعلى من صوت العقل، ويغدو الحديث عن المستقبل ترفًا أمام استدعاء الماضي بكل أثقاله.
وعندما يصبح المظهر معيارًا وحيدًا للحكم على الإنسان، يُمحى العقل والروح من المعادلة. تُختزل القيمة الإنسانية في ثوب أو لحية أو حجاب، ويغدو الحكم على النوايا أسهل من الحكم على الأفعال. هكذا تُغتال الإنسانية مرتين: مرة في سطحية النظر، ومرة في مصادرة الجوهر.
الإنسانية ذاتها تُعامل كسلعة مستوردة، كأنها بضاعة من الغرب تحتاج إلى إذن جمركي كي تدخل وعليها دمغة “مُخالفة للهوية”. نتحدث عن “حقوق الإنسان” وكأنها بدعة، وعن “المساواة” وكأنها كفر. ونتناسى أن أرقى القيم لم تُولد في قاعات الغرب وحده، بل كانت ضاربة في جذور حضاراتنا قبل أن نبيعها في سوق السياسة والدين.
اليوم، علينا أن نعترف بلا مواربة: الحداثة تُسحق. لا تُسحق بالصدفة، بل تُسحق عمدًا، بتواطؤ من سلطات دينية وسياسية تدرك أن الإنسان الحر أخطر عليها من أي عدو خارجي. تُسحق حين نُقنع أنفسنا أن العودة إلى الوراء هي الخلاص، وأن إقامة “الخلافة” حلم الأمة. بينما الحقيقة أن ما يُسوّق كخلاص ليس إلا انتحارًا جماعيًا بطيئًا، يعيدنا إلى عصور كان الفرد فيها مجرد تابع مطيع بلا حق في السؤال ولا في التفكير.
إننا نسير بخطى حثيثة نحو “دولة الخلافة”، لا كيوتوبيا مثالية، بل ككابوس يبتلع الحاضر والمستقبل. الخلافة ليست هنا سوى شعار آخر لسلطة مطلقة، يلبس لبوس الدين ليُشرعن الوصاية على العقل والجسد معًا.
ولعل أخطر ما في المشهد أننا نساهم في هذه المسيرة طواعية، بالصمت تارة وبالتبرير تارة أخرى، حتى صار الدفاع عن العقل يُتهم بالكفر، والمطالبة بالحرية تُصنف كخيانة.
لكن الحقيقة البسيطة تبقى: لا مجتمع ينهض بمئذنة أعلى من مدرسة، ولا وطن يُبنى على قشرة مظهر بلا جوهر، ولا مستقبل لإنسانية تُعامل كسِلعة.
إما أن نُعيد الاعتبار للمدرسة فوق المئذنة، وللعقل فوق النقل، وللإنسان فوق المظهر، أو سنستيقظ ذات يوم لنجد أننا فقدنا كل شيء، ولم يتبقَّ لنا سوى أطلال دولة تُسمى “الخلافة