يبدو أن مجتمعاتنا لا تزال تتعامل مع عقوبة الإعدام بوصفها التعبير الأقصى عن العدالة، وكأن السجن مدى الحياة لا يكفي. لكن هذا القبول المطمئن، بل والمتحمس أحيانًا، يكشف عن مأزقٍ أخطر بكثير من مسألة العقوبة ذاتها: إننا لم نتعلم بعد أن نمنح الحرية معناها الحقيقي.
الحرية التي لا تُرى
في عمق الوعي الإنساني، الحرية ليست مجرد قدرة على الحركة، أو حقًّا في الاختيار، بل هي ما يجعل الإنسان إنسانًا. حين تُسلب الحرية، يُنتزع جوهر الكرامة. ولهذا فإن السجن مدى الحياة ليس مجرّد حبس خلف قضبان، بل هو إلغاء كامل للزمن الشخصي، قتل بطيء للإنسان من دون أن تسيل قطرة دم واحدة.
غير أننا، في مجتمعاتنا، لا نرى في السجن الطويل عقوبة كافية. لماذا؟ لأننا لم نتربَّ على أن الحرية هي أثمن ما يملكه الإنسان. من لم يعرف قيمة الحرية لن يفهم معنى فقدانها. وهكذا يغدو السجن لدينا “ظرفًا مكانيًا” لا عقوبة وجودية، في حين يتحول الموت إلى الخيار الأسهل والأكثر إرضاءً لنزعة الانتقام.
الإعدام كفرجة اجتماعية
من يتأمل مشهد الإعدام يكتشف أنه ليس مجرد قرار قضائي، بل طقس جماعي للثأر. نحن لا نطالب بالقصاص فقط، بل نريد أن نراه ماثلًا أمام أعيننا. الإعدام يرضي فينا شهوة العنف المكبوتة، لأنه يقدم خاتمة سريعة، وصورة واضحة: الجريمة انتهت، الجاني مات، العدالة أُنجزت.
أما السجن المؤبد فلا يُرضي الغرائز الجماعية، لأنه بلا مشهد. لا توجد فرجة. لا ينتهي في لحظة، بل يستمر بصمت خلف الجدران، فلا يتسق مع حاجتنا العاطفية إلى “الخلاص الفوري”.
المفارقة الغربية
إذا نظرنا إلى المجتمعات التي تضع الحرية في مركز قيمها، نكتشف مفارقة لافتة: معظمها ترفض الإعدام، ليس لأنها متساهلة مع الجريمة، بل لأنها تدرك أن السجن مدى الحياة هو أقسى عقوبة ممكنة. الحرمان من الحرية لعقود طويلة عقوبة أشد ألمًا من الموت، وأكثر عدلًا من حرمان مطلق وفوري لا رجعة فيه.
هؤلاء يرون في الحرية قيمة كونية، حتى للجاني، ولذلك فإن سلبها منه تمامًا يكفي ليؤكد العدالة. أما نحن، فبما أننا لا نعيش الحرية كقيمة أصيلة، فإن حرمانها لا يبدو لنا عقوبة كبرى. فنقفز مباشرة إلى أقصى الحلول: الإعدام.
العدالة أم الانتقام؟
السؤال الجوهري هنا: هل نريد العدالة فعلًا، أم نبحث عن الانتقام؟
عقوبة الإعدام تُسكت الألم الجمعي، لكنها لا تعيد شيئًا مما فُقد. هي أقرب إلى الانتقام المشروع، لا إلى العدالة الواعية. أمّا السجن مدى الحياة، فهو يضع المجتمع أمام سؤال صعب: ماذا يعني أن يُحرم إنسان من حريته إلى الأبد؟ هذا السؤال يفرض علينا مواجهة قيمة الحرية ذاتها، ومواجهته تقتضي وعيًا فلسفيًا نفتقده.
أزمة وعي
قبولنا السهل بالإعدام ليس برهانًا على صرامة قوانيننا، بل على هشاشة وعينا. نحن نلجأ إلى أقصى العقوبات لأننا لا نملك الجرأة على تقدير أبسط القيم. فالحرية حين تصبح بلا معنى، يغدو السجن مجرد جدران، وتغدو المشنقة خلاصًا مرضيًا لغرائز الانتقام، لا تجسيدًا للعدالة