خرافة التنوير المنفلت: حين يُستبدل القيد بالانفلات

بقلم: الشاعرة المصرية فابيولا بدوي

ليست المشكلة في الظلام وحده، بل في ذلك الضوء المزيّف الذي يصدر من أيادٍ لا تعرف معنى النور.
في مجتمعاتنا، لم يعد التجهيل حكرًا على رجل الدين المتشدد، بل أصبح أيضًا سلاحًا بأيدي من يزعمون التنوير وهم لم يتحرروا من تشوهات تربيتهم القديمة.
إنهم نسخة جديدة من الاستبداد، فقط غيّروا الشعارات: من “حرام” إلى “حرّية”، ومن “وصاية باسم الدين” إلى “وصاية باسم الفكر”.

هؤلاء الذين يتحدثون عن التحرر، يظنون أن الحرية فوضى وسقوط اخلاقي، وأن الجرأة تُقاس بمدى قدرتهم على هدم كل القيم دون أن يبنوا بديلًا.
يتحدث أحدهم عن “تحرير الجسد” وهو لا يفهم معنى الكرامة، ويدافع آخر عن البيدوفيليا بدعوى “كسر التابوهات”، ويبرر ثالث الإباحية الأخلاقية باسم الفن.
وكلهم في النهاية أسرى رغباتهم، يتحدثون عن النور بينما يعيشون في عتمة دواخلهم.

لكن الأخطر من هؤلاء هم الصامتون.
أولئك الذين يختارون وضع الجنين كلما احترق العالم حولهم،
يتكوّرون في صمت مريح ويبررونه بـ”الحياد” أو “الواقعية”،
يتجنبون المواقف الصريحة كما يتجنب الطفل مواجهة الحقيقة.
صمتهم ليس حكمة، بل جبن أنيق يُزيّنونه بشعارات النضج.
هم شركاء في الجريمة لأنهم يتركون الساحة للمهرجين باسم الحرية، وللمتعصبين باسم الإيمان، والساقطون باسم البطولة المزيفه … جميعهم كائنات من ورق لا اكثر ولا اقل.

فالصامت الذي يرى الزيف ويسكت، ليس إلا شاهد زور أنيق يرتدي ثوب الحياد.
ثم هناك الجاهل الأحمق الذي يندفع خلف أي صرخة أو شعار ليُثبت ذكوريته المتوهمة.
ذاك الذي يهاجم كل امرأة تفكر لأنها تُربكه،
ويتّهم كل صاحب وعي بأنه مأجور أو مريض نفسي أو عدو للهوية.
ينقلب على الحقائق حين تهدد صورته الهشة،
ويصرخ بأعلى صوته كي لا يسمع أحد هشاشته الداخلية.
هو لا يدافع عن قيم، بل عن ذاته المهزوزة،
ويظن أن رفع صوته يمنحه رجولة، كما ظن المتشدد أن كثرة الفتاوى تمنحه تقوى.

هذه النماذج — الصامت الملتف على نفسه، والمندفع الذي يعبد صوته_
هي التي تصنع البيئة الخصبة لمدّعي التنوير ومدّعي الإيمان على السواء.
فكلاهما يعيش على صمت الناس وبلادة الوعي وكسل الموقف.

خرافة التنوير المنفلت هي خرافة من اعتقد أن كسر القيد غاية،
ونسِي أن الغاية هي الإنسان الحر المسؤول، لا المندفع الغريزي ولا الصامت المبرر.
فمن لم يتحرر من جهله، لا يمكن أن يكون تنويريًا،
ومن لم يتعلم أن الحرية التزام، لا يستحق أن يتحدث باسمها.

لقد آن الأوان لأن نفهم أن التنوير ليس مشهدًا في ندوة، ولا تغريدة متفلسفة،
بل هو موقف أخلاقي قبل أن يكون موقفًا فكريًا.
النور الحقيقي لا يصدر من أفواه الصارخين ولا من أقلام المزايدين،
بل من العقول التي تفكر بصدق، ومن القلوب التي لا تساوم على الحقيقة،
مهما كانت مكلفة، ومهما خذلها الصامتون والحمقى والمدّعون

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!