يُعْتَبَرُ الكاتبُ الرُّوسِيُّ أنطون تشيخوف ( 1860 _ 1904 ) أعظمَ كاتب قِصَّة قصيرة في التاريخ . كَتَبَ المِئات مِنَ القصص القصيرة التي اعْتُبِرَ الكثير منها إبداعات فَنِّية كلاسيكيَّة ، كَمَا أنَّ مَسْرحياته كانَ لها تأثير عظيم على دراما القَرْنِ العِشرين ، وَتَعَلَّمَ مِنها الكثيرُ مِنْ كُتَّابِ المَسْرحيات المُعاصِرين .
قامَ بابتكاراتٍ إبداعيَّة أثَّرَتْ بِدَوْرِها على تطوير القِصَّة القصيرة الحديثة ، وَتَتَمَثَّل أصالتُها بالاستخدامِ المُبَكِّرِ لِتِقنية تَيَّار الشُّعُورِ الإنسانيِّ الدَّاخِلِيِّ ، وتَوظيفِ التفاصيلِ الدقيقة الظاهرة ، وَتَجميدِ الأحداثِ الخارجيَّة في القِصَّة، لإبرازِ النَّفْسِيَّة الداخليَّة للشَّخْصِيَّات .
تَتَجَلَّى الرَّمزيةُ في أدبِهِ وقِصَصِهِ مِنْ خِلالِ استخدام عناصر حِسِّية لتمثيلِ مفاهيم مُجَرَّدَة ، والتركيزِ عَلى تَعقيدِ الطبيعةِ البَشرية ، وتناقضاتِ المُجتمعِ الإنسانيِّ . وتشيخوف يَسْتخدم الرُّمُوزَ للتَّعبيرِ عَن الهَشَاشَةِ الوُجوديةِ ، والفَراغِ الداخليِّ للشَّخصيات في إطارٍ واقعي ، وإظهارِ جَوهرِ المَشاعرِ الإنسانيةِ والأفكارِ العَميقةِ ، واستكشافِ مَواضيع التَّغْيير والنِّضَالِ مِنْ أجْلِ التَّكَيُّفِ معَ المَشْهَدِ الاجتماعيِّ الجديد .
حَوَّلَ تشيخوف صُوَرَ الطبيعةِ إلى رُمُوز تَعْكِسُ مَشاعرَ الشَّخصياتِ وتَجَارِبَها ، وَتَنْقُل حَالَتَهَا العاطفيَّة . وغالبًا مَا يُظْهِرُ التناقضَ بَيْنَ جَمالِ الطبيعةِ وَقَسْوَةِ المُجتمعِ الإنسانيِّ . كَمَا أنَّه حَوَّلَ السُّخريةَ إلى رَمزية أدبية لنقدِ الأعرافِ والتقاليدِ المُجتمعية .
إنَّ أدبَ تشيخوف قائم عَلى فِكرةِ البَحْثِ عَنْ مَعْنى في عَالَمٍ قاسٍ وَخَشِنٍ وَغَيْرِ مُبَالٍ ، مِمَّا يَعْكِسُ ضَعْفَ الإنسانِ وَضَيَاعَه في مَتاهةِ الحَياة . واعتمدَ في أعمالِه عَلى صِدْقِ الوَصْفِ ، والإيجازِ،والمَوضوعيَّة، وَتَصويرِ الأشخاصِ والأشياء بِدِقَّةٍ، وَتَجَنُّبِ الأحكامِ المُباشِرةِ أو المُبَالَغَات، مَعَ قُدرة عَلى طَرْحِ أسئلةٍ فلسفية عميقة ، وَالمَزْجِ بَيْنَ الحِسِّ الكُوميديِّ والأحاسيسِ المُوجعة والساخرة ، خاصَّة في تناول الأحداثِ اليوميةِ والطَّبَقَاتِ الاجتماعية ، والحِرْصِ عَلى التَّأمُّلِ في المَصِيرِ البَشَرِيِّ ، حَيْثُ تَنَاوَلَ تَساؤلاتٍ حَوْلَ قَدَرِ الإنسانِ ، والعَدالةِ ، وَقِيمةِ العَمَلِ ، مِنْ خِلال قِصَص تُسَلِّط الضَّوْءَ عَلى تفاصيلِ الحَياةِ العاديَّة .
تتناولُ أعمالُ تشيخوف مواضيع عالميَّة كالحُبِّ ، والمَوْتِ ، والبَحْثِ عَنْ جَدوى الحَياةِ وَحَقيقةِ الوُجودِ ، وَتُقَدِّمُ فهمًا عميقًا للحالةِ الإنسانيةِ، وتَعقيداتِ العلاقاتِ بَيْنَ الناسِ .
وفي قِصَصِه القصيرةِ ، يَتَّخِذُ الحُبُّ أشكالًا مُتعددة ، فَيَظْهَر الحُبُّ العاطفيُّ الشَّهْوَانِيُّ الذي يَسْتحوذ عَلى كُلِّ شَيْء ، كَمَا يَظْهَر الحُبُّ بِمَعْناه العائليِّ الاجتماعيِّ . وَيُصَوِّرُ تشيخوف بشكلٍ مُتكرِّر التَّوَتُّرَاتِ وَالصِّرَاعَاتِ التي تَنْشَأ في العَلاقاتِ الرُّومانسيَّة ، مُشَدِّدًا في كثيرٍ مِنَ الأحيانِ عَلى المَشاعرِ المُعقَّدة التي قَدْ تَنْشَأ عِندَما يَكُون الشَّخْصَان عَلى صِلَةٍ وثيقة .
تَعَمَّقَ تشيخوف في مَواضيعِ الوُجودِ الإنسانيِّ ، والبَحْثِ عَنْ مَعْنى للحَيَاة . واستكشفَ _ مِنْ خِلالِ شَخصياتِ قِصَصِه _ تَعقيداتِ الحالةِ الإنسانية ، وَكِفَاحَ الإنسانِ لإيجاد مَكانِه في العَالَمِ ، وَشُعُورَه بالمَلَلِ والقَلَقِ أثناءَ البَحْثِ عَنْ مَعْنى أعمق في الحَياة ، والانشغالِ بالأسئلة الوُجودية عَن المَعْنى والغايةِ .
وَيَتكرَّر مَوضوعُ المَوْتِ في قِصَصِه باعتبارِه مُحَفِّزًا لِصِرَاعِ الشَّخْصياتِ الوُجوديِّ . وَمِنْ خِلالِ المَوْتِ تَظْهَرُ هَشَاشَةُ الحَياةِ ، وَحتميةُ الفَنَاءِ . وَتَختلفُ نَظرةُ الشَّخصياتِ إلى المَوْتِ ، فالبعضُ يَعْتبره تَحَرُّرًا مِنَ مُعاناةِ الحَياةِ وَفَرَاغِها ، والبعضُ الآخَرُ يَعْتبره تَذكيرًا بِقِيمةِ الحَياةِ وَضَرورةِ عَيْشِها .
تَتَجَلَّى فلسفةُ تشيخوف الرَّمزيةُ في بَساطةِ أفكارِه ، وَنَماذجِه القِصَصِيَّة ، وَشُمولِه لِكُلِّ الأفرادِ في المُجتمعِ مِنْ عِلْيَةِ القَوْمِ حَتَّى قاعِ المُجتمع ، كَمَا تَتَجَلَّى في المَوضوعيَّةِ الصارمة التي قَدْ تَبْدُو نَوْعًا مِنْ البُرودِ تُجَاه مَصائرِ الأبطالِ .
وَأَدَبُهُ يُعْتَبَرُ طريقًا لِمَعرفةِ الإنسانِ والمُجتمعِ والعَالَمِ والحَيَاةِ ، وَطَريقةً لِقِراءةِ تاريخِ المُجتمعِ الإنسانيِّ، بِكُلِّ طَبَقَاتِهِ وَتَناقضاتِه وَصِرَاعاتِه وَمَخَاوفِه وَهَوَاجسِه. وَأَدَبُهُ لَيْسَ خَاتِمَةً مأساويةً للحَيَاةِ ، وإنَّما هُوَ جُزْءٌ مِنْ التَّجْرِبَةِ الوُجودية، التي تَعْكِسُ هَشَاشَةَ الإنسانِ، وَقُوَّةَ حَيَاتِه ، وَتَدْفعه إلى العَيْشِ بِعُمْقٍ معَ استغلال كُلِّ لَحْظَة ، وبناءِ وَعْيٍ مَعرفيٍّ بأهميةِ الحَيَاةِ وحَتميةِ المَوْتِ .
والجَديرُ بالذِّكْرِ أنَّ تشيخوف _ بِوَصْفِهِ طبيبًا _ كانَ يُوَاجِهُ المَوْتَ يَوْمِيًّا، حَيْثُ اعتادَ التعاملَ معَ المَرضى الذينَ يعيشون على هَامِشِ المُجتمع ، وَهَذا الاحتكاكُ المُبَاشِرُ جَعَلَه يَرى المَوْتَ حَقيقةً واقعيةً ، وَفُرصةً للتأمُّلِ ومُراجعةِ الذات ، وَتَذكيرًا دائمًا بِضَرورةِ العَيْشِ بِصِدْقٍ . وهَكذا ، صارَ المَوْتُ في أَدَبِهِ تَجْرِبَةً وُجوديَّةً يَوْمِيَّة . وَلَمْ يُحَاوِلْ تَحويلَ المَوْتِ إلى مَأساةٍ ، أوْ كارثةٍ ، أوْ حَدَثٍ دِرَاميٍّ عاطفيٍّ مُفْرِط ، أوْ جُزْءٍ مِنْ مَعركةٍ رُوحيَّة ، أوْ جُزْءٍ مِنْ صِراعٍ داخليٍّ وُجوديٍّ. بَلْ كانَ المَوْتُ جُزْءًا مِنَ التَّدَفُّقِ الطبيعيِّ للحَياة .
واعتبرَ تشيخوف الطبيعةَ رَمزيةً أساسيَّة لِفَهْمِ المَوْتِ . ففي قِصَصِه ، تَرتبط الطبيعةُ بالتَّقَلُّبَاتِ النَّفْسِيَّة والتَّحَوُّلاتِ الداخليَّة للشَّخصياتِ ، وَتَتَّضِحُ الحَيَاةُ بِوَصْفِهَا وِلادةً للحُلْمِ والأمَلِ ، وَيَتَّضِحُ المَوْتُ بِوَصْفِهِ تَكريسًا للعَدَمِ والفَنَاءِ .