زياد الرحباني حلم كثيراً و”فات ينام”

بقلم:أيمن جزيني

استيقظ اللبنانيون والعرب اليوم، على خبر مفجع: مات زياد الرحباني. وكأنّ الخبر يقول مات زمن كامل، وطن كامل، وألحان وكلمات لا تموت… فإلى أين رحل؟

مدوٍّ خبر موت زياد الرحباني. مفجع وصاعق وقاسٍ… أقسى من هذه الأيام. أن يرحل عن عالمنا زياد الرحباني، الفنان اللبناني “العبقري”، وابن عاصي الرحباني وفيروز، لحدثٌ جلل. حدث يؤرَّخ به وله وعنه. زياد الرحباني، الموسيقي والمسرحي والشاعر والكاتب والمؤلف والسياسي، ليس شخصاً من لحم ودم، فحسب. هو زمن كامل. زمن كامل مرّ على وقع ألحان خاصة به، من شغله وكدّه وإبداعه، ومن مروره في الدنيا عموماً وفي لبنان بوجه خاص، ومن فكره وآرائه ووجهة نظره، ومن شخصيته أو “كاراكتيره” الخاص جداً والفريد.
رحل زياد، ولا أحد يعرف كيف رحل، وبمن التحق: بوالده وعمّه وزكي ناصيف وفيلمون وهبي وكوكبة من أقرانهم؟ بجورج حاوي وجورج بطل ومحسن إبراهيم ومهدي عامل وكريم مروة؟ أو بسيد درويش وشيخ إمام؟ أو تراه انتقل إلى لبنان أبيه وأمّه، لبنان الرحابنة، لبنان الذي نستيقظ كل يوم لنرحل إليه أو يرجع إلينا؟

زمن كامل

أن يرحل زياد الرحباني هو أن يرحل زمن كامل عنّا، وتمضي حقبة من تاريخنا كان فيها زياد بوصلةً، وأباً، وملهماً، و”صعلوكاً” بكل ما تحمله الصعلكة من نبل وثورة وتمرّد. زمن سنظلّ نرجع إليه كل صباح وكل مساء، في سلاماتنا وأحاديثنا وتعليقاتنا ونكتنا وسياستنا وعيشنا وجبلنا وبحرنا وموسيقانا وتاريخنا وحاضرنا ومستقبلنا… في سلمنا وفي حروبنا. زمن فارَقَنا وما فارقْناه، تركَنا وما تركْناه. زمن لا بد سيعبر فيه كل جيل لبناني قادم. كان زياد وليد نفسه، ووليد اجتماع لبناني فريد وغريب وعجيب، لذا كان مثله وسيبقى غريباً فريداً عجيباً.
أن يرحل زياد الرحباني يعني رحيل معنى العبقرية وإبداع الآلات الشرقية، والبيانو، والكمان والناي والبزق والشعر والنثر والنص السياسي الساخر من الإجتماع الأهلي اللبناني. فقد عرفه اللبنانيون والعرب ملحّناً ومؤلفاً موسيقياً مختلفاً، جمع بين الجاز والموسيقى الشرقية والكلمة الشعبية. أبدع أعمالاً خالدة مثل “عودك رنان”، “بالنسبة إلك شو يعني؟”، و”بما إنو”. إلى جانب الموسيقى، ترك زياد بصمته في المسرح السياسي الساخر، حيث كتب وأخرج مسرحيات شهيرة مثل: “بالنسبة لبكرا شو؟”، “فيلم أميركي طويل”، “نزل السرور”، “بخصوص الكرامة والشعب العنيد”، و”لولا فسحة الأمل”. هذه الأعمال عرّت تناقضات المجتمع والسياسة اللبنانية بلغةٍ ساخرة وجريئة لم يجرؤ عليها كثيرون.
اشتهر زياد بانتمائه إلى الفكر الشيوعي، وظل صوته عالياً ضد الطائفية والظلم الاجتماعي والفساد، حتى بات رمزاً للمثقّف الذي يعيش قضايا شعبه. لم يفصل يوماً بين فنه وموقفه، فكانت موسيقاه امتداداً لأفكاره ومسرحه ساحةً مفتوحةً للنقد، لكن موسيقاه وكلماته ستبقى تنبض في وجدان أجيالٍ تعلّمت منه أن الفن موقف قبل أن يكون صوتاً جميلاً، وأن الضحك لا ينفي عمق الوجع، بل يضاعف أثره. جسدّ فكرة أنّ الإبداع الحقيقي لا يُهادن ولا يساوم.

“عَ هدير البوسطة”

وُلد زياد الرحباني في 6 كانون الثاني 1956، لعاصي الرحباني، الفنان والموسيقار والشاعر والمفكر والفيلسوف والعلم اللبناني عاصي الرحباني، وفيروز، أيقونة الغناء اللبناني والعربي والعالمي. ساعدته نشأته في هذا البيت الفنّي على إتقان العزف على البيانو والتأليف الموسيقي والمسرحي، كما فتحت له نوافذ على الحياة السياسية والفكرية السائدة آنذاك، فتعرّف على غالبية الأيديولوجيات السائدة، وانتمى إلى الماركسية اللينينية، وانضوى في الحزب الشيوعي اللبناني. صحيح أنه مضى على خطى أبيه، في التأليف الموسيقي والمسرحي من حيث الشكل، إلا أنه عارضه حدّ التضاد من حيث المضمون، وما اشتهر زياد إلا بمعارضته هذه وتقديمه شيئاً ضد المألوف والسائد، وفي كل شيء.
في الـ17 من عمره، قدّم أولى مسرحياته “سهرية” عام 1973، ثم كرّت السبحة: “بالنسبة لبكرا شو؟”، “نزل السرور”، “فيلم أميركي طويل”، “بخصوص الكرامة والشعب العنيد”، و”لولا فسحة الأمل”.
أما في التلحين والتأليف، فقدّم “سألوني الناس”، “كيفك إنت”، “صباح ومسا”، “عودك رنان”، و”البوسطة” وغيرها الكثير. وهي أغانٍ يحفظها اللبنانيون والعرب عن ظهر قلب ويرددونها دائماً. أيضاً قدّم عدداً من الألبومات الموسيقية: “أنا مش كافر”، “إلى عاصي”، و”مونودوز”.
كان في ألحانه وأغانيه مجدداً ومحدّثاً مزج الموسيقى الشرقية بالجاز، والجدّ بالسخرية، ما عزا كثيرين إلى ضمّه إلى كوكبة تنطلق من سيد درويش ولا تنتهي عند شيخ إمام عيسى.
إلى ذلك، اشتهر زياد الرحباني بمواقفه السياسية والاجتماعية وحتى الاقتصادية التي كان يطلقها عبر برامجه الإذاعية من إذاعة لبنان إلى “صوت الشعب”، ومن “بعدنا طيبين قول الله”، إلى “تابع لشي تابع شي”، “العقل زينة”، “ياه ما أحلاكم”، و”نص الألف خمسمية”… إلخ.
في الغناء يُذكر زياد فتحضر والدته، السيدة فيروز. لكن لا يغيب اسم جوزيف صقر كلما ذُكر اسم زياد، والذي شارك في غالبية أعمال الأخير المسرحية كما غنّى له معظم أغانيه، مثل “الحالة تعبانة يا ليلى”، “يا زمان الطائفية”، “بما إنو”، “يا بنت المعاون”، “مربى الدلال”، “تلفن عياش”، و”عايشة وحدا بلاك”… كذلك تحضر أسماء مثل سامي حواط، ولطيفة وغيرهم كثر.

عقيدة وجهاد

في كل ما قال زياد الرحباني وألّف وفعل، كان في صف “الشعب المسكين”، في صفوف العمّال مقاوماً لكل سائد ومألوف ومهيمن ومحتلّ، ولكل كاذب وفاسد، ولكل سلطة في المجتمع من سلطة الأب إلى سلطة الدولة والحكام والميليشيات. وفي كل ما قال وقدّم وأبدع، كان مرآةً صادقة للاجتماع اللبناني. بل كان سابراً لأغوار هذا الاجتماع وهذه “القرطة”… “قرطة عالم مجموعين… مجموعين، لأ… مطروحين؟ لأ… مضروبين، لأ … مقسومين… قوم فوت نام وصير حلام”…
قبل ذلك كله، وبعده، عاش زياد الرحباني ومات حرّاً، لم يبع موقفاً أو يطأطئ رأسه لسلطة، ومضى على هدي مواقفه لا يخشى لومة لائم.

ماذا يقول رحيله؟

رحيل زياد الرحباني وقع ليقول شيئاً. لا يموت زياد الرحباني عبثاً. لا بدّ من رسالة، من موقف، ومن نكتة ربما. ثمة سياق لرحيله، مهما كان مفجعاً ومؤلماً.
بعد ساعات من عودة جورج إبراهيم عبد الله إلى لبنان، وإلى زمننا، من السجن الفرنسي، من زمن مضى، ومن ذاكرتنا أيضاً، حلمت فئة من اللبنانيين بعودة زمن ما، حلمٍ ما… ولكن زياد قال لا، بسرعة وبداهة وفطنة لطالما عُرف بها واشتهر. رحل وقال لا. هذا ليس زمني. لن أشهد ما سيأتي أو ما سيحلّ بكم. أنا راحل. لكم أزمنتكم ولي زمني. وربما قال: هذا فيلم أميركي طويل شاهدت فصولاً منه سابقاً واكتفيت. ربما قال ليس زياد زمنكم، فابحثوا فيكم عن زياد…

رحل زياد عن عالمنا جسدياً، لكنه سيبقى بيننا نغمةً ولحناً وكلمات، وأسلوب تفكير وعيش وكلام، وأقوالاً تصلح لأزمنتنا كلها طالما بقي اجتماعنا على حاله.
اللبنانيون والعرب وكثيرون آخرون يسألون الآن عن فيروز، ويقولون لها: قلوبنا معك.

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!