زيف الوعي الجمعي – حين يُبرمج العقل باسم النخبة

الحلقة (7):
كتبت الشاعرة فابيولا بدوي

ليس من السهل أن ترى ما تعتقد أنك تراه بالفعل.
فما يُسمى بـ”الوعي الجمعي” في مجتمعاتنا ليس وليد يقظة الناس، بل غالبًا ابن شرعي لبرمجة طويلة، مارستها نخبٌ كانت تدّعي قيادة التنوير، بينما تقوم بتوجيه العقل الجمعي وفق مصالحها أو بتكليف من سلطات أقوى منها.

ما هو الوعي الجمعي؟
الوعي الجمعي، في تعريفه النبيل، هو ما ينتج عن تفاعل المجتمع مع تجاربه وتاريخه وقيمه، وايضاً ما يطلع إليه هذا المجتمع كي يغدو أكثر تقدما وإنسانية، فيولد اتفاقًا ضمنيًا حول ما يُعتبر صوابًا أو خطرًا أو مقدسًا.
لكن في واقعنا، صار هذا الوعي مصنعًا لا طبيعيًا، تُعيد إنتاجه نخب متحالفة مع سلطة أو أيديولوجيا أو دين موجه أو أهواء شخصية.
وبدلًا من أن يكون وسيلة للنجاة، أصبح أداة لإعادة تدوير الجهل، وتقديس القوالب، وقمع التفكير الفردي.

النخبة كمهندس وعي:
تتسلل النخبة إلى مساحات التأثير: التعليم، الإعلام، الدين، الفن، لتضع بصمتها.
لكنها لا تبحث عن الحقيقة، بل عن السيطرة الناعمة. تُعيد تعريف المفاهيم الكبرى: الحرية، الكرامة، العقل، الحق حقوق المرأة … بما يناسب الرواية الرسمية أو الفكرية التي تنتمي إليها.
وبهذا، يتحول الوعي الجمعي من تفاعل إنساني حي، إلى منتَج فكري صناعي، يتم تسويقه كـ”حقيقة” أو كـ”هوية” لا يجوز المساس بها.

البُعد السياسي: وعي من أجل الولاء
في كثير من الدول، تتحالف النخبة الثقافية مع السلطة السياسية لصناعة وعي يُفرغ السياسة من معناها.
فتصبح الوطنية طاعة، والاختلاف خيانة، والمطالبة بالحقوق عبثًا.
النخبة هنا لا تُنير، بل تُبرمج. تسوّق القمع على أنه ضرورة، والفقر على أنه صبر، والاستبداد على أنه استقرار.
وبذلك تُخلق بنية نفسية شعبية لا ترى الخلاص في التغيير، بل في الرضا بالموجود والخوف من المجهول.

البُعد الديني: إيمان يُستخدم لضبط العقل
حين تتحالف النخبة الدينية مع السلطة، فإنها تستخدم الدين لإنتاج طاعة بلا سؤال.
تُكرَّس خرافات الطاعة العمياء، وتحوَّل النص إلى سلاح ضد الحرية.
وهكذا، يُعاد تشكيل الوعي الجمعي ليظن الناس أن التمرد ضد الظلم هو تمرد على الإله، وأن السكوت فضيلة، وأن القدَر هو ما قرره الحاكم أو الشيخ أو الزعيم.
باسم الدين، يُغلق العقل، وتُخنق الأسئلة، ويُحتقر الفرد الباحث عن حقه في التفكير.

حين تصبح النخبة بوابة الخرافة:
الخطر لا يأتي من الجهل وحده، بل من النخبة التي تعيد إنتاجه بطريقة ذكية. نخبة تصنع خطابًا يبدو عقلانيًا، لكنه يُكرّس الاستسلام.
فتنقلب المفاهيم:
– يصبح الحذر جبنًا منطقيًا،
– والتفكير الحر ضربًا من التهور،
– ومقاومة الاستبداد دعوة للفوضى.
هكذا يُبنى وعي جمعي زائف، يحرس الظلم، ويكره المختلف، ويرفض أي صوت خارج السرب.

التأثير على الفرد:
في ظل هذا التزييف الجماعي، يُصبح الفرد غريبًا إذا فكّر، مريبًا إذا سأل، مدانًا إذا خرج عن الصف.
وتتحول الحرية إلى لعنة، والعقل إلى خطر، والتفرّد إلى عزلة.
فالوعي الزائف لا يكتفي بتوجيه السلوك، بل يُربك الضمير، ويجعل من العيش بكرامة فعلًا شبه مستحيل.

مما لاشك فيه أن:
زيف الوعي الجمعي هو خرافة بلباس الحداثة. لا تُنتَج فقط في المساجد أو الفصول الدراسية، بل أيضًا في صفحات الكتب، وحوارات التلفزيون، وتغريدات النخبة.
ولذلك، لا يكفي أن نُشكّك في السلطة أو الدين أو الإعلام… بل لا بد أن نُعيد النظر في النخبة ذاتها:
من يمثّلنا؟ ومن يوجه عقولنا؟ ومن قرر نيابة عنا ما هو الصواب؟
فلا حرية دون كسر هذا الوعي المُعلّب… ولا نهضة دون استعادة العقل من قبضة المبرمجين باسم النور.

وعلى الرغم من كل هذا الزيف، تظل هناك نخب حقيقية…
نخب لا تُقدّس الوهم، ولا تتحالف مع القيد، بل تفتح النوافذ وتُضيء العقول وتُربك القوالب الجاهزة.
هؤلاء هم القلائل الذين لا يُصنّفون أنفسهم نخبًا… لأنهم مشغولون بما هو أهم: بالإنسان

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!