صوتٌ للسماء… وقيدٌ على البشر/ بقلم: الشاعرةالمصرية فابيولا بدوي

في مجتمعاتنا، يعلو صوت المآذن كخلفية يومية للحياة، ليس بوصفه نداءً للروح، بل كعلامة تُراد لها أن تُثبِت أن الحقيقة هناك، فوق الإنسان لا داخله. ومع كل نداء، يزداد الصمت حول أبسط الحقوق: حق المرأة في أن تكون حرة، وحق الطفل في ألا يُهان، وحق الإنسان في أن يفكر دون خوف.

أنا لا أعترف بوصاية رجال الدين، ولا أرى في سلطتهم سوى إرثًا من الخوف؛ سلطة لا تستمد قوتها من نور المعرفة، بل من ظلام الجهل وترويض الجماهير. ما زال يُعاد إنتاج الهيمنة نفسها عبر الخطاب الديني المؤدلج: كلام كثير عن الفضيلة، وعدالة لا تتحقق أبدًا.

في مجتمعات كهذه، تُعامل المرأة كمساحة للسيطرة: تُحاصر بسياج الشرف والعورة، ويُراد لها أن تُطيع قبل أن تُفكر. لا تُرى كما هي: عقل، رغبة، كيان مستقل؛ بل ككائن ناقص يحتاج إلى وصي، وكأن الطبيعة خانته والدين جاء يُصلحه. هكذا تُصان الذكورة، لا العدالة.

أما الطفل، فيُصاغ على مقاس الخوف. يُعاقَب كي يتعلم الصمت، ويُكتسب احترامًا بالقهر لا بالفهم. يكبر وهو يخلط بين الله والعقاب، بين السلطة والقداسة. وما ينجو منه جسده، يظل عالقًا في وعيه كندبة.

هذه المنظومة لا تحمي أحدًا، بل تشرعن القمع. رجال الدين لا يملكون حقيقة مطلقة، بل سلطة مطلقة على من آمن بأن الطريق إلى الله يمر عبر أفواههم. يوزّعون صكوك الطاعة، ويحوّلون النص إلى سكين يقطع كل اختلاف. محميون بالخوف، متكئون على تقديس لا يستحقونه.

المأساة أن المجتمع يبدو تقيًا وهو في العمق فاسد: يصلي لكنه لا يرحم، يصوم لكنه لا يعدل. تُرفع الشعائر على أنقاض الحرية، ويُغلق باب العقل خوفًا من أن يرى الناس هشاشة ما بُني باسم السماء.

إنني أرى الدين شأنًا فرديًا لا حق لأحد في فرضه أو تفسيره نيابة عن الآخر. ولا أرى في رجال الدين إلا مؤسسة سلطة، مثل أي سلطة أخرى: قابلة للنقد والرفض والسقوط. فلا قداسة في البشر، ولا صوت يسمو فوق قيمة الإنسان.

العدالة لا تُقاس بتكرار الطقوس، بل بصون الكرامة.
والحرية لا تُمنح، بل تُنتزع.
والإنسان لا يكتمل إلا حين يواجه سلطة النص بسلطة العقل.

حين نضع الإنسان في المركز، يهبط صوت الوصاية ويرتفع المعنى. أما حين نرفع الشعار فوق الحق، نُنتج مجتمعًا يعبد الصوت لا القيمة، المظهر لا الجوهر، ويترك أكثر الناس ضعفًا—امرأة وطفلًا—لقيود لا ترحم.

ليس الصوت ما يجعل مجتمعًا أفضل، بل القدرة على الإصغاء لمن لا صوت لهم. وليس الإيمان ما يحمي الكرامة، بل القانون. أما المآذن، فتبقى أصواتًا في الهواء؛ لن تُنقذ أحدًا ما لم ننقذ أنفسنا من وهم القداسة الزائفة.

الإنسان أولًا… وما عداه تفاصيل

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!