ثمة لحظةٌ، يلتف فيها العالم حول عنقك كحبلٍ غليظ، يضغط عليك بأوزان المدن، بأصوات الأسواق، بصرخات الساسة الذين يتقاتلون فوق الميكروفونات ككلاب جائعة، ثم فجأة تجد نفسك تركض نحو عزلةٍ صامتة، نحو صخرةٍ بعيدة في سفح جبل، فقط كي تستعيد القدرة على التنفس.
الإنسان ليس ابن الضجيج كما يظن، بل هو ابن السكون، ابن تلك اللحظة التي ينصت فيها قلبه لصوته الداخلي؛ ذاك الصوت العميق الذي لا يسمعه إلا حين ينهار كل شيء من حوله. في تلك اللحظة ندرك أن الكلمات لم تكن سوى عكاكيز مهترئة، تتكئ عليها أرواحنا كي لا تسقط في هاوية العدم، لكنها في الحقيقة لا تملك أن تنقذنا.
لقد خُلقنا عابرين، والعبور قدرٌ لا نستطيع أن نكذّبه. نولد ونبكي، نكبر ونصرخ، نغني ونضحك، ثم نرحل بصمت. نحن مجرد أصواتٍ في ممرّ طويل، تتردد للحظة ثم تذوب. كل ما نحاول فعله في هذه المسافة الضيقة بين الميلاد والفناء هو أن نترك أثرًا صغيرًا، ضوءًا في غرفة مظلمة، جملةً ناقصة يكمّلها مجهول بعدنا.
ولعل أعظم مقاومةٍ للإنسان ليست في حروبه ولا في دمه المسفوك على طرقات التاريخ، بل في بساطته اليومية: أن يفتح النافذة في صباحٍ بارد، أن يترك الشمس تلمس وجهه، أن يشرب قهوته وهو يحدّق في الفراغ، أن يضحك رغم علمه أن الضحك لا يؤخر الموت دقيقةً واحدة.
كل إنسان، في النهاية، هو رواية لم تُكتب كاملة. الموت لا يمحو النص، بل يتركه معلقًا على الصفحة، نقطةً لم يجف حبرها بعد. كأننا جميعًا جملٌ مبتورة تنتظر أن يكتبها شخصٌ آخر في زمنٍ آخر.!