في أوائل القرن الثامن عشر بدأ، كما يظهر في كتاب «مؤثرات عربية وإسلامية في الأدب الروسي» لمكارم الغامدي، الاحتكاك الروسي بالتراث العربي والإسلامي؛ إذ اطلع الشعراء الروسمنذ ذلك الوقت على العقيدة الإسلامية والقُرآن الكريم والسنة النبوية، ونهلوا من ثمار الترجمات الأوروبية والروسية للشعر الجاهلي وبخاصة المعلقات، كما قرأوا الشعر الصوفي، والأساطير والحكايات الشعبية، وتأثروا بتلك الخواطر والأحاديث والانطباعات التي جاء بها الرحّالون والحجاج الروس، في أثناء تجوالهم في ربوع فلسطين ومصر وسوريا.
لعل من أهم الشعراء الروس الذين تأثروا بالثقافة العربية الإسلامية، وظهرت فلسطين في شعرهم هما: الكسندر بوشكين(1799-1837م)، وميخائيل ليرمونتوف (1814 – 1841). وبوشكين هو أعظم الشعراء الروس، ويطلقون عليه اسم شمس الشعر الروسي، وله مؤلفاته كثيرة مع أنه قتل في الثامنة والثلاثين من عمره في مبارزة بينه وبين ضابط فرنسي. من مؤلفاته: «روسلانولودميلا»، و»أسير القوقاز»، و»نافورة باختشي سراي»، و»الغجر»، ورواياته الشعرية «يفجيني أوينجين»،و»ملكة البستوني»، و»دوبروفسكي»، و»ابنة الآمر».
في مجموعته الشعرية «القصائد الشرقية» التي ترجمها طارق مردود عام 1999م، نقرأ قصيدة «الفارس الفقير»، التي كتبها بوشكين عام 1829 وتناول فيها الحروب الصليبية، وذكر الأراضي المقدسة في فلسطين، واستذكر شخصية بطرس الناسك الذي يشير إليه بالفارس الفقير. وبطرس هذا هومن قاد الحملة الصليبية الأولى على الأراضي المقدسة بحجة تخليص قبر المسيح وحماية الحجاج الأوربيين من المسلمين. لقد صوربوشكين اندفاعه تحت سطوة الخرافة والوهم إلى حرب غير منطقية أو غير المبررة من الناحية الدينية، ويعجب من اعتقاد هذا الفارس الصليبيبأنهؤلاء المسلمين الشرقيين سيرتعدون خوفًا منه. ولكنه في النهاية يصدم بمقاومتهم ودفاعهم عن المدينة المقدسة، ويعود إلى بلده خجلًا من هزيمته، ويسجن نفسه في قصره حتى الموت.
«هاهم الفرسان/ للقاء الأعداء المرتعدين/ في سهول فلسطين/ اندفعوا داعين السيدة/ هتف بانفعال/ (يانور السماء، يا روز القديسة)/ ولكن حشود المسلمين/ جرفته من كل الجوانب/ عائدًا إلى قصره البعيد/ عاش في حصر شديد/ صامتًا دومًا، دومًا حزين/ مات دونمًا قربان».
أما ميخائيل ليرمونتوف، الذي يلقب شاعر القوقاز فإلى جانب أنه شاعر بارزفهو رسام أبدع كثيرًا من اللوحات الجميلة، والغريب أنه مثل صديقه بوشكين فقد حياته في مبارزة مع زميل له في الدراسة، ولمّا يتجاوز السابعة والعشرين. من قصائده الجميلة: «الشركسى»، و»الخريف»، و»الشراع»، و»القرصان»، و»أسير القوقاز»، و»الشيطان»، و»النخلات الثلاث»، و»النبي»، و»الخنجر»، و»الشاعر». كما كتب ليرمنتوف مسرحيتين: «حفلة تنكرية»، و»الشقيقان»، وله الرواية المشهورة «بطل من هذا الزمان». لعل من أبرز القصائد التي أبدعها ليرمنتوف قصيدة «غصن فلسطين» التي قالها حين أهدى إليه الكاتب الروسي أندريهمورافيوف غصن نخيل (سعفة) كان قد أحضره عام 1830من رحلة له في بلاد الشرق. يذكره هذا الغصن بفلسطين والقدس ومياه الأردن والمقدسات المسيحية، ويجعل منه شخصية حية له وشائجه بالأحداث والمكان والزمان. نقرأ من ترجمة سليم أسعد علي:
«حدثني، يا غصن فلسطين/ أين كنت تنمو، وأين كنت تزهر؟/ أي وديان وهضاب كنت تزين؟/ أكانت مياه الأردن الطاهرة بقربك؟/ أم كانت شمس الشرق تداعبك؟/ هل كان أبناء القدس الفقراء/ يصلون بصوت خافت/ أم يرتلون أناشيد الزمن الغابر/ عندما كانوا يجدلون وريقاتك؟/ ألا تزال تلك النخلة/ بهاماتها ذات الأوراق العريضة/ تستدرج في قيظ الصيف/ من يجوب تلك الصحراء؟/ أم أنها ذبلت مثلك/ ماتت من ألم الفراق/ أخبرني أية يد تقية ورعة/ جاءت بك إلى هذا البلد/ هل كان صاحبها يحن إليك؟/ وهل تزال آثار دموعه المحرقة عندك؟/ أكان خير جندي من جنود الرب/ صافي الجبين كصفائك/ جديرًا برضى السموات/ في أعين الناس والإله؟/ وهل تقف، يا غصن فلسطين/ أمام أيقونة ذهبية/ حارسًا مخلصًا للمقدسات/ تصونك عناية خفية؟
نلاحظ أن موقف الشاعرين بوشكين وليرمنتوف من الشرق العربي مخالف تمامًا لكل ما جاء به الاستشراق الغربي الذي حدثنا عنه إدوارد سعيد في كتابه «الاستشراق». لقد تأثر الأدباء الروس بحضارة العرب والمسلمين دون أن يحاولوا الانتقاص من قيمتها وأهميتها. ويمكن القول إن منزلة فلسطين المشرقة قد تكرست لدى الشعب الروسي بتأثير أشعار بوشكين وليرمنتوف التي تناولت الشرق. كما أن في شعرهما ما يكذب ادعاءات من يقول بأن فلسطين لا وجود لها في التاريخ. يقول درويش: «على هذه الأرض سيدة الأرض/ أم البدايات أم النهايات/ كانت تسمى فلسطين/ صارت تسمى فلسطين».
عن / جريدة الدستور