في ذكرى وفاة السياب (رائد تجديد الشعر الحرومؤسسه !؟)

عبدالجبارنوري

توطئة: ثمة دوافع ذاتية تدفعني مغمورة بالأعجاب يعظماء وطني العراق المفدى أخزن في ذاكرتي ( أرخنة ) مولد ووفاة قادة الفكر العلمي والثقافي ، ربما هي من أرهاصات كاتب يعشق رموز موطنه ، فكان يوم 24ديسمبر كانون أول أستلمتُ أشارة من أعماق الذا ت المتعبة جراء  شتاء العمر الثقيل تقول : قم يا هذا وأقف أجلالاً ( اليوم 24 ديسمبر كانون أول عام 1964 ذكرى الغياب الأبدي لأهم وأكبر شعراء العرب في القرن العشرين ، هو الشاعر العراقي الكبير ” بدرشاكر السياب ” ، يعتبر السياب أحد مؤسسي الشعر الحر في الأدب العربي ، تعايش مع مزيج من المؤثرات البيئية والأجتماعية السوسيولوجية والتي أثرت في تشكيل الذات عند الشاعر التي هي :

-الطبيعة الساحرة لأرياف جيكور الخلابة .

– مزاجاته المتغيرة في تغيير المكان .

– لم يصل لتجربة ناجعة مع حواء .

– أضطراب قراراته السياسية في تغيير المواقف الفكرية .

بيد أنهُ أباح عنها بأعظم القصائد دقة ورصانة وواقعية أبهرت العالم في أربعينيات القرن الماضي في كتابه المشهور” أنشودة مطر” التي تضم مجموعة من قصائد رائعة مثل : قصيدة غريب على الخليج ، وأزاهير ذابلة ، المومس العمياء ، ومنزل الأقنان ، وشناشيل أبنة الجلبي وقصائد أخرى تعتبر من ألمع الدرر في الشعر العربي الحديث منها : نهر الموت ، جيكور ، وبورسعيد ، وكتبت عنهُ بعض وسائل الأعلام المنصفة : { إن السياب لا ينازع في عراقيتهِ الصميمة مع إنهُ لم يأخذ شيئاً من وطنهِ أثناء حياته من تكريم وتقييم .

موضوع البحث :

محطات في حياة الشاعر السياب :

المحطة الأولى في حياة السياب المبكرة حين أواضحا أظهر أهتماماً واضحاً بالمذهب الرومانطيقي أحد المذاهب الأدبية الذي يولي أهتماماً كبيراً بالأنسان متأثرا بمفهومه الماركسي ( الأنسان آثمن رأسمال ) حيث تبنى النزعة اليسارية حيث أمتاز بها في هذه المرحلة المبكرة من حياتهِ وهو يعايش الصراع الطبقي في قريته جيكور البائسة وشظف العيش للفلاحين والشغيلة في عموم البصرة المحرومة التي عايشت النظام الشمولي والأستبداد وكم الأفواه لكن مع الأسف أتجه إلى النضال السلبي حيث الأحباط والقنوط وكره الحياة وعقد صداقة مع الموت في الهروب إلى الأمام كقصيدة حفار القبور، وقصيدة الموت يقول فيها :

يمدون أعناقهم من ألوف القبور يصيحون بي !

أن تعال

نداءَ يشقُ العروق ، يهزُ المُشاش ، يبعثرُ قلبي رماداً

أصيلَ هنا مُشعلَ في ، الظلال

تعال أشتعل فيهِ حتى الزوال!

ولا شيء إلا إلى الموت يدعو ويصرخ ، فما يزول

خريفَ ، شتاءَ ، أصيلَ ، أفول

وباقٍ هو الموت ، أبقى وأخلد من كل ما في الحياة

-المحطة الثانية : في هذه المرحلة حدث للسياب تحولا ( فكري ) بأتجاه قومي عروبي في ستينيات القرن الماضي حيث  المد القومي بزعامة الزعيم المصري عبدالناصر ، فكانت قصائدهُ تقنع المتتبع الثقافي أن يقرأ هويتهُ القومية قصائدهُ عن الجزائر وفلسطين وقصيدة بور سعيد عام 1956الذي يقول :

حييت بور سعيد من مسيل دمٍ

لولا أفتداءَ لما يغليه ما هانا

إن العيون التي طفأت أنجمها

عجلن بالشمس أن تختار دنيانا

وأمتد كالنور في أعماق تربتنا

عرسَ لنا من دمٍ وأخضل موتانا

-المحطة الثالثة : جل قصائده الأخيرة تحمل صوت أوجاعهِ ومعاناته حيث أصيب بمرض التدرن الرئوي والشلل النصفي وهو بعمر شبابي مبكر ، أضافة لمعاناته المادية  في نفاذ أجازاته المرضية  وأجازة نصف راتب  بدت عليه المعاناة الأليمة وحمل تلك الرزايا صابراً محتسباً فأشعرهُ  (جن الشعر)  بقصيدة ” سفر أيوب ” المشهورة يقول  :

أأصرخُ في شوارع لندن الصماء

هاتوا لي أحبائي !؟

ولو إني صرختُ فمن يجيب صراخ منتحر

تمرُ عليهِ طول الليل آلاف من القُطرِ

لندن 28-12-19

أسلوب السياب الشعري ومدى تأثرهِ بأليوت وأبي تمام ؟!

وقبل هذا أقول أن للسياب الأثرالأهم للتحوّلْ النوعي في خارطة الشعر العربي الحديث المعاصر وفي تيار الحركة الحداثوية الشعرية في تضاريسها وأدوارها  :

-هو رائد الشعر الحر ، بدأ بكتابة الشعر الكلاسيكي منتقلا إلى الشعر الحر لشعوره أن القديم لا يحقق مساعيه في أرهاصاته الداخلية في أعلان الحرب على الحرمان والفقر والموت ، ولآنّهُ رأى في فلسفة الحياة مختصر الكلام ( الصراع بين الفناء والوجود ) ، وأني أرى أنهُ ليس سوداوياً كما يزعم بعض النقاد لأنهُ بدأ بقصائد غلبت عليها الرومانسية متأثراً بطبيعة جيكور الخلابة ومفاهيم الحب وهو يقول في هذا المجال :

أشاهدت يا غاب رقص الضياء —- على قطرةٍ بين أهدابها ؟

ترى أهي تبكي بدمع السماء —- أساها وأحزان أترابها

وأفراح كل العصافير فيها — وكل الفراشات في غابها

-السياب أكثر رغبة في توظيف الأسطورة والرمز في النسيج الشعري للواقعية الجديدة ، وبانت جلية في ” أنشودة المطر ” التي وظّف فيها أسطورة عشتار ، يقول :

عيناك غابتا نخيل ساعة السحر

أو شرفتان راح ينأى عنهما القمر

عيناك حين تبسمان تورق الكروم

وترقص الأضواء كالأقمار في نهر

وعندما نقرأ للشاعر الأنكليزي ( أليوت )هو توماس ستيرنز 1888 -1965 هو شاعر وناقد ومسرحي وفيلسوف أنكليزي أظهر في نصيتهِ الشعرية الرمزية والأسطورية  ببعضٍ من الغموض والصعوبة ، ويعكس التهاتف النفسي والحضاري لدى الأنسان الأوربي ، وتوضحت فلسفتهُ الشعرية في قصيدته المشهورة ( الأرض اليباب ) The Wasta Land فالشعر الجيد في نظر أليوت هو قد يبلغ القلب قبل تمام الفهم ، فهو من رواد الشعر الحر الأنكليزي ، وقد تأثر به عدد كبير من الأدباء والشعراء والنقاد العرب ، منهم على سبيل المثال لا الحصر : بدر شاكرؤ السياب ونازك الملائكة ولميعه عباس عماره ولويس عوض وصلاح عبد الصبور وجبرا خليل جبرا وأدونيس ويوسف الخال ومحمود درويش ، فأصبحت القصيدة المعاصرة أكثر وأغزرها في تناول الأنسان المعاصر في تراثهِ وحضارتهِ وأحداثهِ التأريخية وقضاياه الآنية : هنا مفترق الحديث حيث يأخذ الشاعر الأوربي بأتجاه حضارته الأوربية كاليونانية  والرومانية والآخر في فضاءات الأدب العربي يتحه نحو جذوره التأريخية في بابل ووادي النيل ، فشاعرنا السياب في الأربعينات كان واضحاً بمقارباتٍ نصية شعرية بما لدى( أليوت) من تركيز على التراث وأستخدام الأسطورة والرمز والأيحاء والأشارة التظمينية .

-وصراعات تغيرات المكان وأزماته الفكرية وشظف العيش وأفتقاده لحب أمرأة ضاعفت أشكالاته وتحولت إلى أزمة مزمنة نفّس عنها بقصيدة حنين لجيكور تعكس أستلابات المنفى والغربة والضبابية واليأس وبعضٍ من الشجون والأسى، ولكنه على العموم يطفح بالحنان والرقة ويتجه بها ألى ( الرومانطيقية ) تلك النزعة الأدبية السائدة في الأدب الغربي الأوربي وهذه بعض أبياتها:

{ أه جيكور جيكور ماللضحى كالأصيل

يسحب النور مثل الجناح الكليل

جيكور ديوان شعري

موعد بين ألواح نعشي وقبري

وفي قصيدة أخرى يقول :

لا تزيديه لوعة فهو بلقاك

لينسى لديك بعض أكتئابه

قربي مقلتيكي من قلبي الذاوي

تري في الشحوب سرّ أنتحابهِ  . وأخرى :

ليت السفائن لا تقاضي راكبها عن سفار

أو ليت الأرض كالأفق العريض بلا بحار

متى أعود ؟ متى أعود؟

وا حسرتاه — لن أعود إلى العراق ! .

-السياب رائد الحداثة الشعرية حيث لا يختلف أثنان في مدى شاعريته وجدارته في الأبداع الشعري بتعدد المستويات والمحاور ، وكما تقول عنهُ الدكتوره ناديه هناوي في المنجز النقدي حول شعر السياب : ( — وكأنهُ متحف لكل ما عرفهُ النقد من مذاهب وأتجاهات أبتداءاً من التأريخية وأنتهاءاً بالبنيوية )أنتهى ، حتى أصبح المنجز النقدي عن شعر السياب حالة نموذجية عصية الأستنساخ أطرتْ شخصنة السياب بالذات ويمكن أن يصطلح عليه أسم ( نقد النقد ) أو ما بعد النقد ، وان رأي الناقد العربي أسعد رزوقي في كتابه الموسوم ( الأسطورة في الشعر العربي المعاصر )الصادر عن دار مجلة الشعر اللبنانية : هو أنهُ يمكن الجمع بين خمسة من الشعراء العرب هم جبرا أبراهيم جبرا وأدونيس ، وخليل حاوي ، ويوسف الخال وشاعرنا بدر شاكر السياب ، وأني أثني على رأي الناقد ، لأن الأسطورة والرمزية تشكلان محور البناء النصي السردي لكينونة وصيرورة القصيدة السيابية والتي جاءت واضحة ومتماثلة مع الشاعر أليوت في توظيفه للأسطورة .

وهذه بعض أبيات من قصيدة ( الأرض اليباب ) لأليوت نرى واضحاً أستعماله تلك الأدوات الأدبية في الرمز والأسطورة وفوبيا المجهول الذي يسيرهُ الموت فتبدو متطابقة مع النصية الشعرية عند السياب :

دفن الموتى

نيسان أقسى الشهور ، يتناسل الليلك في البريّة الميّتة ، وتمتزج الرغبة في الذكرى ، وتهتاج الجذور الشاحبة عطر الربيع ، أية جذورٍ متشبثة هذه ؟ أية أغصان ؟ تنبتْ من هذه النفاية الحجرية ، أخافُ من الموت بالماء ، أرى حشوداً من البشر يسيرون في دائرة .

أنظر إلى السياب كيف يملي على شعره الرمزية التصويرية بالأستعانة (بالميثولوجيا ) والأشارات التأريخية وهذه مطلع قصيدتهُ أنشودة المطر التي تعتبر أيقونة بارزة في الأرث الثقافي العراقي والعربي ، وعليك أن تكتشف تلك المقاربات الفكرية في سير السرد النصي في شعر السياب وأليوت وأبي تمام :

أنشودة المطر

عيناك غابتا نخيل ساعة السحرْ

أو شرفتان راح ينأى عنهما القمرْ

عيناك حين تبسمان تورق الكرومْ

وترقصُ الأضواء كالأقمار في نهرْ

أتعلمين أي حزنٍ يبعثُ المطرْ

وكيف يشعرُ الوحيد فيهِ بالضياع

بلا أنتهاء كالدمُ المراق ، كالجياع

كالحبِ كالأطفال ، كالموتى هو المطر

-وأن بدر شاكر السياب متأثر بالشاعر “أبي تمام” في نصيّة المفردات الشعرية بأستعمال الرمزية والأسطورة ، وهذه بعض من بائية أبي تمام المشهورة ، الذي ربما تأثر بها السياب وهي  قصيدة عموريا بالحقيقة  هي ملحمة شعرية أكبر من أن تكون قصيدة :

السيفُ أصدقُ أنباءاً من الكتبِ —في حدهِ  الحد بين الجد واللعبِ

بيضُ الصفائح لا سود الصفائح — متونهن جلاء الشك والريب

وأشعر أبو تمام في الحنين للوطن وقال

نقّلْ فؤادك حيث شئت من الهوى

ما الحبُ ألا للحبيب الأولِ

كم منزلٍ في الأرض يألفهُ الفتى

وحنينهُ أبداً لأول منزلِ .

أخيرا/ ربما قد تقارب الشاعر بدر شاكر السياب مع أليوت وأبي تمام في الرمز والاسطورة والحنين للوطن ، بيد أن السياب تمكن من رسم شخصنته الشعرية المميزة وخاصة بأقتحامه للمنجز الأدبي العربي بنقلة نوعية من الرومانسية القديمة إلى عالم الشعر (الحر) الذي يلبي طموحات الأنسان في آماله وتأملاته الحياتية فالمجد لشاعر جيكور المجدد الحداثوي ” بدر شاكر السياب ” .

الهوامش والمصادر/

-عبد الواحد لؤلؤة –اليوت أرض اليباب 1980

– عبدالجبارداود البصري –بدر شاكر السياب رائد الشعر الحر

– أسعد رزوقي –كتابة الأسطورة في الشعر العربي المعاصر

– بدرشاكر  السياب – قراءة أخرى – د/علي حداد 1998

– بدر شاكرالسياب –عبدالحسين شعبان –بيروت 1999

كاتب وباحث عراقي مقيم في السويد

 

 

 

 

 

 

 

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!