ثلاثة عشر الف اعجابا وألفين وثمانمائة مشاركة واكثر من ستمائة تعليق حصدها منشور الفيلسوف الالماني ألبرت شفايتزر خلال ستة أيام من تاريخ نشره ورغم أنني نقلته من صفحة صديقي فيسبوكي مثقف وكل ما فعلته هو صياغة عنوان معبر من وحي المحتوى وصور مختلفة للفيلسوف. نشر في صفحة صديقي قبل ثلاثة أيام (وحصد 92 أعجاب و10 مشاركات وستعشر تعليق ) فما الذي يفسر هذا الزخم المثير من التفاعل الايجابي من هذا المنشور الثقافي الإنساني؟ ما دفعني لطرح هذا السؤال الذي حيرتي من تلك الظاهرة التواصلية الاجتماعية التي تحدث لأول مرة في صفحتي منذ تأسيس حسابي (آقصد وجود هذا العدد الهائل من المشاركات والتعليقات والإعجابات) من اشخاص حقيقين وقد كتبت البارحة فيما يشبه التمهيد في سيكولوجية التفاعل في هذا هذا العالم الافتراضي الذي يضج بالحياة الصاخبة ولكنها تبدو صامتة فكل من يعجب أو يعلق أو يشارك هو إنسان حي وشخص حقيقي بلحم ودم وقلب وعقل ومشاعر وافكار تستدعي التقدير والاحترام ومن المعيب اعتبار الاصدقاء والصديقات المتفاعلين مجرد ارقام لقياس وتقييم التفاعل من عدمه. خالص تقديري واحترامي لكل الاصدقاء والمتابعين لصفحتي من النوع الاجتماع ولا تهمني هوياتهم وقومياتهم ومعتقداتهم وتوجهاتهم فطالما دخلوا صفحتي فهم في سلام آمنين. ولما كان هدف كل شخص هنا هو التواصل التفاعلي وتحقيق اكبر قدر من التفاعل الايجابي فقد سعدت بهذا السيل المنهمر من المتابعين والاصدقاء والصديقات الذي شرفوا صفحتي بهذاالاهتمام الجميل إذ لأول مرة في حياتي الافتراضية يتاح لي الوصول إلى هذا العدد العظيم من الاشخاص الاحياء الذين لك شخص منهم تجربة حياته الخاصة وكل ما بلغته منشوراتي قبل هذا لا يتجاوز الالف تعليق والمائة مشاركة والخمسمائة تعليق.
ثلاثة عشر عام مضت منذ أنشأت أول حساب شخصي في تطبيقي الفيسبوك. على مدى تلك الاعوام اكتسبت خبرة متواضعة وتغذية راجعة في ممارسة التواصل الاجتماعي عبر العالم الأفتراضي. فقدت حسابي لأكثر من مرة، ربما ثلاث مرات؛ لأسباب مختلفة(تقنية وإدارية فنية وتهكيرية) خلال تلك المدة لم يحدث معي حالة مشابهة لمنشور ألبرت شفايتزر الأنف الذكر. وبحكم مهنتي الأكاديمية في التدريس تخيلت نفسي في قاعة بالغة الضخامة تحتوي ثلاثةعشر الف إنساناً؛ عدد مهيب جدا واذا كانت الإعجابات ليست مقياسا للتفاعل الايجابي فمن المؤكد إن المشاركات للمشورات تعد مقياسا حقيقيا لذلك إذ لا شيء يدفع المرء لمشاركة منشور عمومي في صفحته إلا بحافز حقيقي ينم عن الاهتمام الفعّال فضلا عن التعليقات التي تستدعي جهد ووقت وعناية واهتمام فعلي. فما الذي يفسر انجذاب هذا العدد الكبير من الأصدقاء والصديقات من كل جهات الأرض ومن مختلف القوميات واللغات والديانات والثقافات إلى منشور عرضي كهذا؟ هل محتوى المنشور ؟أم أسم صاحبة؟ أم عنوانه؟ أم أشياء خفية لا نعلمها؟ في الواقع طرحت هذا السؤال على بعض الأصدقاء والصديقات في الخاص والواتساب.
وتفاوت الأجابات في تقدير الموقف واليكم خلاصتها: من السهل تفسير انجذاب جيوش النحل إلى الاشجار المزهرة في المواسم المطيرة ومن السهل تفسير حركة أسراب الطيور وتنقلها بين الامكنة ومن السهل تفسير حركة قطعات الماشية باتجاه المراعي وأحواض المياه .. الخ من كل الظواهر الطبيعية لكن الصعوبة البالغة هي تلك التي تتصل بالظواهر الاجتماعية والإنسانية إذا يصعب تفسيرها بمبدأ السبب والنتيجة كما هو الحال في الظاهرة الطبيعية. فلا وجود سبب محدد لطلاق الأزواج لزوجاتهم ولا وجود سبب محدد لأقدام الاشخاص على الانتحار ولا وجود سبب واضح لانجذاب الناس واهتمامهم بهذا المنشور أو ذاك في صفحات الفيسبوك. إننا نفسر الظواهر الطبيعية ونفهم الظواهر الإنسانية”. فإذا كان بإمكاننا دراسة الظاهرة الطبيعية دراسة تفسيرية، فإنه لا يمكن ذلك مع الظاهرة الإنسانية، بل ينبغي أن تخضع لمنهج الفهم والتأويل. لكن على ماذا يقوم المنهج التفهمي؟ يقوم المنهج التفهمي_التأويلي على إدراك المقاصد والنوايا والغايات التي تصاحب الفعل، والتي تتحدد بالقيم التي توجهها، ويتم النفاذ إلى هذه الدلالات عبر التأويل. وهنا تحضر الذات بقوة في عملية الفهم والتأويل كذات عارفة، لكنها في ذات الوقت كذات متعاطفة ومتوحدة ومشاركة ومتفهمة لموضوعها. وهكذا يكون السؤال العلمي في الظاهرة الإنسانية والاجتماعية ليس ماذا يعتقد الناس ويقولونه ويفعلونه؟ بل لماذا يعتقدون بما يعتقدونه ويفكرونه ويقولونه ويفعلون ما يفعلونه؟!
وهكذا ينبغي إن نفهم الفرق بين الظاهرة الاجتماعية والظاهرة الطبيعية. ونحن بصدد فهم ظاهرة اجتماعية إذ إن العالم الافتراضي رغم ما يبدو عليه من صمت هو ميدان عام للتفاعل الاجتماعي بين الفاعلين الاجتماعيين الذين لا يكون إلا بهم ومن أجلهم. وثمة عوامل وحوافز ودوافع مختلفة لفهم وتأويل الظواهر الاجتماعية النوعية. فنحن هنا بازاء ظاهرة اجتماعية تواصلية نوعية. ثلاثة عشر الف اعجابا وألفين وثمانمائة مشاركة واكثر من ستمائة تعليق حصدها منشور الفيلسوف الالماني ألبرت شفايتزر خلال ستة أيام. ما الذي جعل هذا المنشور يحصد هذا الزخم التفاعلي المثير للاهتمام؟ ربما كان للعنوان أثرا في جذب الانتباه ولكن اعتقد إن حاجة الناس الملحة للشفقة والتعاطف الإنساني هي القوة الجاذبة الخفية في هذا المنشور لا سيما في المجتمعات العربية الإسلامية التي شهدت ولازالت تاريخ طويل من القسوة والقوة القاهرة للأجساد والنفوس إذا قلما يتعاطف الاشخاص مع بعضهم بعد موجات الصراع بينهم. ففي مجتمعات ثقافة النصر والهزيمة تغيب المشاعر الإنسانية وتزدهر القيم المتوحشة.
لقد قرأت تعليقات الاصدقاء والصديقات على منشور ألبرت شفايتزر بدقة متناهية فوجدت معظمها ايجابية وتثني على موقف ألبرت الإنساني تجاه صديقه جورج الذي خاطبه بعد إن صرعه قائلا( أنت أقوى مني يا ألبرت ، أنت تأكل ما لذ وطاب وتشتري ما تريد وتذهب إلي أي مكان وتحاط برعاية الجميع أنت لم تعرف معنى الجوع….. من أنا حتى أفكر في الانتصار عليك ؟ أنا فقير وهزيل) بعض التعليقات الطيبة تمنى أصحابها لو إن ألبرت مات على دين الإسلام حتى يدخله الله الجنة لأنه يستحقها!
طبعا هذه مجرد وجهة نظر والأمر متروك للحوار والنقاش الفعّال ويسعدني تفاعلهم وأبداء وجهات نظركم في فهم سيكولوجية التفاعل الافتراضي مع منشور ألبرت شفايتزر. مع خالص تقديري واحترامي.